حسن اسميك
الاكتفاء الذاتي! يتعامل الكثير منّا مع هذا المصطلح على أنه غاية مطلقة في الأهمية والإيجابية، إذ لطالما بحثت بعض الأنظمة العربية، بخاصة تلك التي تسمي نفسها “تقدمية” عن الاكتفاء الذاتي على الصعيد الاقتصادي، في الصناعة والزراعة والموارد وغيرها، لتضمن ألا تستورد المنتجات الغريبة من الشرق والغرب، مع العلم أن هذا المصطلح بات قديماً وأثبت الفكر الاقتصادي والتجاري أنه شبه مستحيل، وإذا كان ممكناً، فإنه غير مجد في عالم التخصص والميزات المطلقة الذي نعيشه اليوم. وأسأل نفسي: لماذا لم تعمد هذه الدول التي بحثت عن الاكتفاء الذاتي الاقتصادي إلى البحث عنه على المستوى السياسي – النظري والتطبيقي – وهو الأولى، بل سارعت إلى “استيراد” السياسات الغريبة من الشرق والغرب، وعمدت إلى تبني أفكار وأساليب حكم ونظم لا تشبه بلادنا ولا شعوبها.
ألا يمكن اعتبار ما سبق واحداً من أسباب ما آل إليه حال المنطقة في العقدين اللذين سبقا شرارة حوادث ما يُسمى بـ”الربيع العربي” وفي العقد الذي تلاها، إذ لم يعد خافياً على أحد أن المَلَكيات – أو النظم التي كثيراً ما توصف بالتقليدية – تسير قُدماً، بثبات وثقة، فيما تتأرجح سفينة الجمهوريات “التقدمية” في بحر من الفوضى وعدم الاستقرار!
لا أحاول هنا أن أفاضل بين النظامين التقليدي و”التقدمي” لأقول إن أحدهما أفضل من الآخر، بل كل ما أريد التنبيه إليه هو أن النظام السياسي ليس معطى عاماً وثابتاً يمكن تطبيقه على كل الدول من دون تمييز، بل هو نتاج لتراكم الفعل السياسي التاريخي في كل دولة على حدة، ويتبع لسماتها المميزة وخواصها على المستويات الثقافية والفكرية والشعبية، أي المجتمعية بالعموم. وفي الحالة العربية استطاعت النظم، التي سأستخدم معها لفظ “التقليدية” مجازاً، أن تثبت جدارة على الصعيدين الداخلي والخارجي، وبنت استقراراً، لم تستطع الجمهوريات تحقيق الحد الأدنى منه. وهذا ما سأحاول البحث فيه وتبيان أسبابه.
يعود الاضطراب الذي شهدته وتشهده الجمهوريات العربية، في جزء كبير منه، إلى الأساس الأول الذي بنت عليه شرعيتها، وهو القومية الثورية، فعندما أصبح قادة الثورة حكاماً، كتبوا دساتير اعتمدت على الأيديولوجيات القومية، والفكر اليساري الاشتراكي، فغلّبوا المصالح العامة، بحسب ادعائهم، على الحقوق الفردية، وألغيت “الفردانية” إلغاءً شبه مطلق، لحساب الجماعة، لكنهم في النتيجة “لم يطالوا عنب الشام ولا بلح اليمن” كما يقال، إذ قامت هذه الدول الجمهورية، وبدافع من حماية أيديولوجياتها، بالسيطرة على وسائل الإعلام، وعلى الاقتصاد، وحتى على المؤسسات الدينية والفكرية والقضائية، وبنوا سياستهم الخارجية على مفاهيم “النضال” و”القضية” و”الصراع” و”العدو” من خلال خلق تهديد دائم لشعوبهم، فكان “الغرب الإمبريالي”، أو “اليهود”، أو في بعض الأحيان العرب المجاورون، العدو الذي يتحين الفرصة للهجوم على هذه الدولة “الثورية” والقضاء عليها. وفي عالم ينمو فيه الاتجاه التعاوني، زادت عزلتهم الدولية، وأخذ قادتهم الذين وصفوا بالكارزماتيين يومياً، يتحولون إلى استبداديين بشكل متزايد، إلى حد تجاوزوا فيه الملوك الذين ثاروا عليهم أول الأمر.
في المقابل، بقيت المؤسسة الملكية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالهوية الوطنية لدولها بسبب النضال المناهض للاستعمار، وبسبب الأهمية التاريخية للمؤسسة نفسها، التي لطالما توسطت لحل الخلافات بين المجموعات والطبقات المختلفة في البلاد، ورعت خير المجتمع والناس، وسمحت في أحيان كثيرة للمؤسسات الأخرى، كالبرلمانات، بتمثيل الشعب، وبالتالي أبقت نفسها منزّهة عن أي صراع سياسي. وفي الوقت نفسه، أدرك مواطنوها أنها الوحيدة التي تقف أمام المطامع الإقليمية الحقيقية في المنطقة، وبالتالي حظيت الممالك العربية بشرعية، بدأت تقليدية بالطبع (دينية وقبلية)، لكنها أصيلة ووطنية وحقيقية، استطاعت مع الوقت أن تطور منظومتها لتكون مدنية وحداثية مع الحفاظ على قوتها وعمقها.
يندرج تحت الأسباب أيضاً واحد من أهم الفروق بين الملكيات والجمهوريات في العالم العربي، وهو أن الأولى لم تعط محكوميها ورعاياها وعوداً كاذبة بالديموقراطية واختيار الحكام، وإذا كان العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الأنظمة التقليدية “مجحفاً” برأي البعض، إلا أن وضوحه وصدقه من جهة، والالتزام بوعود التنمية والرفاه والاستقرار من جهة أخرى، كانا كفيلين بتحصيل رضا المواطنين، بخاصة أن البديل كان اتفاقاً بين الحكام والشعب، مبنياً على الاحتيال والخداع، حيث وُعد الناس في تلك “الجمهوريات” وعوداً مضللة بأنهم سيقومون بالتصويت واختيار قادتهم وممثليهم، وسيحكمون أنفسهم بأنفسهم.
يعرف سكان الممالك أن أخا الملك أو الأمير أو ابنه سيرث الحكم والسلطة، وهم بذلك راضون ومقتنعون، فعقدهم الاجتماعي يتضمن هذا البند المرتبط بطور “العصبية” بحسب ابن خلدون، وبالتالي لا ينظرون إلى التوريث على أنه شكل من أشكال الإذلال والإرغام، بل بوصفه امتداداً لطور “العظَمَة” في الملكيات العربية التقليدية. فيما يفترض أولئك في الجمهوريات “الديموقراطية” ألّا وراثة لديهم، بل انتخابات وتقرير مصير، إلا أن قادة هذه “الديموقراطيات” العربية – قبل حراكات ما يسمى الربيع العربي – كانوا يعدّون أبناءهم لخلافتهم، في مصر وليبيا واليمن، حتى زين العابدين بن علي التونسي، الذي لم يكن لديه ابن يعده لمنصب الرئيس، كانت لديه عائلة شبه ملكية سيطرت على مفاصل الاقتصاد التونسي الناشئ وعرقلت تقدمه. قال لي صديقي مرة، وهو ابن واحدة من تلك الجمهوريات: «أعرف تماماً ما هي الديموقراطية، لقد قرأت عنها كثيراً، من تلك الأثينية الوليدة في اليونان، إلى عصر التنوير وصولاً إلى دول الرفاه في أوروبا اليوم، لم أر شيئاً من ذلك قط في بلادي..».
على العكس من الجمهوريات، أثبتت الملكيات العربية مستويات عالية جداً من المرونة في القيادة، وتبنت سياسات ليبرالية، تضاهي تلك الغربية، تجاه مواطنيها وسكانها، بمن في ذلك النساء والأقليات العرقية والدينية. ربما لم تسمح بقدر كبير من المنافسة في الشؤون السياسية، إلا أنها لم تنخرط بممارسات عنيفة ضد معارضتها الداخلية كما فعلت دول “الديموقراطيات”، فانعكس ذلك في أن تتبنى أغلب التيارات المعارضة في ظلها، حتى الإسلاموية منها، سياسات أكثر اعتدالاً مقارنة بالدول العربية ذات الأنظمة “غير التقليدية”.
لقد أسست هذه الأنظمة “التقليدية” العربية “نموذجاً” جديداً في الإدارة والحكم، وصار مثار بحث وتركيز عالمي، وذلك لأسباب عديدة ومتنوعة، منها المرتبط بهذه الأنظمة بحد ذاتها، وبإنجازاتها وقدراتها، ومنها المرتبط بالتطورات التي تطال الفكر السياسي والإداري في العالم بالعموم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أثبتت هذه النظم أن عملية “الإصلاح من الأعلى”، والتغيير بالصدمة، ممكنة وقابلة للتطبيق ولتحقيق نجاحات باهرة، بخاصة عندما يحظى الحاكم بشرعية شعبية أصيلة وعميقة، بل ويُنظر إليه من السكان على أنه القوة الموحدة لكل المجموعات العرقية والدينية والطبقية المختلفة في البلاد.
في المقابل، بقيت الجمهوريات “التقدمية” العربية تتحدث عن التغيير التدريجي التراكمي طويل المدى، وكأنها تمتلك رفاهية الوقت، أو كأن ركب الحضارة والتطور والحداثة سينتظر. وفيما “يثور” الناس على أنظمتهم الحاكمة في بلدان النموذج الثاني، أو يبحثون عن أول فرصة للهروب والهجرة، يعود المزيد والمزيد من شباب دول النموذج الأول، بعدما حصلوا على تعليمهم العالي، إلى أوطانهم من الولايات المتحدة وأوروبا، ليجدوا في دولهم عملاً وحياة أفضل، ويجدوا في كثير من الأحيان صوتاً في السياسة.
قد يجادل البعض فيقول إنّ الملكيات العربية تتمتع باقتصادات قوية نتيجة عائدات النفط، وهذه حجة واهية، فهي لا تنطبق على الأردن مثلاً ولا على المغرب، وبالمقابل تمتلك الجمهوريات العربية موارد كثيرة، نفطية وغير نفطية، لكن بدل أن تنفقها على الإصلاحات المدروسة والإجراءات التنموية الصارمة وبرامج الرعاية ورفع مستوى معيشة مواطنيها، كما فعلت نظيراتها “التقليدية”، ظلت تنفقها على الحروب التي لا طائل لها، والصراعات البينية والإقليمية التي لا تزال تهدد واقع شعوبها ومستقبلهم، لا بل ومستقبل المنطقة برمّتها.
أما الحجة الثانية التي يدافع من خلالها البعض عن الأنظمة “الديموقراطية” العربية، فهي أنهم لا يحظون بالدعم الغربي الذي تحظى به الملكيات، والسؤال هنا: على أي أساس اختارت هذه الجمهوريات حلفاءها، وبناءً على أي مصلحة؟ فإذا كانت منظومة علاقاتها الدولية لا تساعدها في تحقيق مصالح شعوبها، ولا تساعدها في ضمان أمن البلاد واستقرارها، وفي تنميتها وتطورها وتعزيز مكانتها، فأي علاقات هذه وأي تحالفات، ولماذا ما زالوا متمسكين بها وبنتائجها السلبية على بلادهم؟!
لقد وعدت الأنظمة “التقليدية” شعوبها بحياة أفضل، وهذا ما تعمل دائماً على الوفاء به، ولقد حققت خطوات كبيرة، وأحياناً قفزات نوعية، في هذا الصدد، واستطاعت حرق الكثير من المراحل واختصار الكثير من الوقت على هذا الطريق، واستفادت من كل ما مُنحت إياه من ثروات وموارد، طبيعية وبشرية وسياسية، لتحقيق النهضة وتأمين سبل العيش وبناء القدرات وتنويع مصادر الدخل ومواكبة التطورات على مختلف الصعد الحداثية.
يعامل المحللون والمفكرون العرب الديموقراطية وكأنها الحل الوحيد لكل مشكلات بلادنا، ويقفون عندها من دون توسيع الأفق وتوليد الحلول بناءً على ما لدينا وليس بناءً على النماذج الخارجية. لقد بقينا نتحدث عن الاستفادة من خبرات الآخرين وتوطين تجاربهم حتى نسينا أننا نمتلك تاريخنا السياسي وتجاربنا الخاصة التي من الممكن البناء عليها. حتى في المراحل اللاحقة، أي ما بعد ثورات اليسار “الديموقراطية التقدمية” أواسط القرن الماضي، ظلّ مفكرون كثيرون، وحتى المختصون منهم، يغفلون أن الديموقراطية الغربية قد مرت بمراحل تطور معقدة وطويلة، ولم تأت وليدة اللحظة والتو، ونسوا تماماً أن دولهم اليوم حديثة وفتية إذا ما قورنت بعمر الدول الأخرى، وحرق المراحل هنا من خلال استيراد نظم وسياسات غريبة هو أمر بلا طائل، لا بل يشكل خطراً كبيراً وتهديداً وجودياً على هذه الدول، وهذا ما رأيناه واضحاً في حوادث “الربيع العربي”، حيث بلغ الأمر من الخطورة حد تحول بعض الجمهوريات العربية دولاً فاشلة.
لا أنتقد الديموقراطية هنا أبداً، بل أحاول أن أعطيها حقها مقابل الاستسهال الذي يتكلم به عنها كثير من السياسيين والمفكرين العرب، فالديموقراطية ليست مجرد نظام حكم بل هي تقليد ثقافي وفكري. إنها مسألة معقدة، وسيرورة متكاملة، ليس فيها متغير واحد يثبت أنه ضروري أو كافٍ لنجاحها أو لعدمه، وما زالت تخضع لتغيرات كثيرة، ليست كلها إيجابية، حتى في أعتى قلاعها الغربية، ففي السنوات القليلة الماضية، تزعزع اليقين القائل بأن الديموقراطية باتت راسخة وحقيقية في البلدان الغنية التي اعتادت الانتخابات الحرة والنزيهة، إذ بدأت الأنظمة الحزبية المستقرة بالتفكك، وازداد غضب مواطني الكثير من الدول في جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية، حيث دخلت مجموعة جديدة من الشعبويين البرلمانات، بل لقد وصل بعضهم الى السلطة التنفيذية. ناهيك بأن الهيئات التشريعية باتت تعكس الرأي العام بمستويات أقل بسبب الدور المتنامي للمال في السياسة، كما أصبحت هذه الهيئات أقل قوة في العموم بسبب الأهمية المتزايدة للوكالات البيروقراطية والبنوك المركزية والتجارة الحرة، وشركاتها العابرة للحدود، والمؤسسات الدولية.
في خمسينات القرن الماضي وستيناته، عندما حلت الدكتاتوريات العسكرية محل الديموقراطيات الجزئية في الفترة الاستعمارية في مصر والعراق وغيرها.. تم تصوير الديموقراطية على أنها “مثيرة للانقسام على الصعيد الوطني” وأداة غربية ينبغي التخلص منها، لا بل اعتبر الرئيس المصري حينها جمال عبد الناصر الديموقراطية البرلمانية الجزئية في مصر، خلال الفترة من 1923 إلى 1952، مجرد “أداة سهلة لمزايا النظام الإقطاعي”، وهذا إن دل على شيء فهو يدل الى أن هذه الأنظمة لم تكن منذ البداية تنوي تداول السلطة، أو اعتماد الديموقراطية الحقيقية والتمثيل النيابي أو غيرها من الأفكار، وكان استيراد هذه السياسات ميتاً قبل أن يولد.
في المقابل.. لم يتعهد الملوك لرعاياهم الديموقراطية، وهذا قد لا يعجب الغرب الأوروبي أو الأميركي، وهم مدّعو حمل لواء الديموقراطية في العالم، لكن الملوك العرب وعدوا شعوبهم بحياة أفضل، ووفوا بكثير مما وعدوا، وما زالوا يبذلون الجهود لتحقيق المزيد، وهذا يعجب محكوميهم ويرضيهم ويحقق لديهم القبول والامتنان، والشعب وحده هو الفيصل هنا، لأنه غاية السياسة دائماً. ولذلك فالسياسة بنت أرضها وأهلها، ولا تصلح لأن تكون مستوردة، وكذلك نظام الحكم، لا يكمن استيراده ولا حتى تقليده، وأي “مستورد” من هذا النوع محكوم حتماً بالفشل والسقوط.
في كتابه الصادر عام 1968 تحت عنوان “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة”، استحدث عالم السياسة الأميركي صمويل هنتنغتون مصطلح “معضلة الملك”، الذي يسلّط الضوء على إحدى المشكلات الرئيسة التي تواجه الأنظمة الملكية، وهي كيف تتحرر هذه الأنظمة من دون أن تفقد السيطرة، لقد استطاعت الملكيات العربية كسر هذه المعضلة، وخلقت نموذجاً جديداً يكاد يكون مثالياً في الحكم، وربما تخلق نموذجها الخاص من الديموقراطية، فيحافظ على روحها وجوهرها الذي يتمثل بتحقيق مصالح الشعب وضمان حريته، لكن على يد ملكهم أو أميرهم.