حسن اسميك
تثير كلمة “العنف” بداخلي –كأي إنسان سويّ– مجموعة من المشاعر الطبيعية المرتبطة بالرفض، ممزوجة بأخرى تخاطب حقيقتنا البشرية، وتدفعني للمضي إلى أعماق نفسي بحثاً عن الأسباب التي تجعلنا كبشر، رغم تقدمنا الهائل عن بقية الكائنات من ناحية المنطق والعقلنة والمحاكمة، نتخذ أسلوب “العنف” كمنهجٍ لفرض فكرة أو نشر عقيدة أو تثبيت نظام حكم، أو حتى للتعبير عن أنفسنا أحياناً، حين نفقد السيطرة أو نشعر بالخطر والخوف أو الاختلاف.
تطول قائمة أسباب اللجوء إلى العنف من أجل البقاء أو التغيير، وتتعدد ارتباطاتها النفسية والاجتماعية والسياسية، لكن العنف لم يكن دائماً الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الأهداف، فقد نجحت جماعات إنسانية كثيرة بتحقيق مطالبها أو الوصول لغاياتها وإحداث التغيير الذي تنشده، بواسطة مبدأ مخالف تماماً في الاصطلاح والتطبيق، ألا وهو مبدأ “اللاعنف”، أو العقيدة الاجتماعية التي تنص على أن العنف أي كان نوعه هو دائماً أمر خاطئ.
قد لا يؤمن البعض بجدوى المقاومة دون عنف، أو بإمكانية أن يتخذ الصراع شكلاً غير الحرب، مستندين في معتقدهم إلى أمثلة عن انقلابات عسكرية ناجحة، أو تمرد لجماعة هنا أو مقاومة مسلحة لأخرى هناك نالت ما تريده عن طريق العنف، بينما فشلت مثيلاتها لأنها اختارت الطريق الآخر. قد تكون هذه أمثلة واقعية، لكن هل تساءلنا يوماً عن مقدار الضريبة التي نجمت عند اتّباع نهج العنف؟ ما حجم الخسائر البشرية والمادية؟ وما حجم الانقسام الذي يولده بين الدول أو حتى بين أفراد المجتمع الواحد في بعض الحالات؟
نعم، هي ضريبة كبيرة، وكثيراً ما ناءت أجيال متعاقبة أمام تغطية تكاليفها، لهذا السبب يجب علينا أن نفهم أهمية مبدأ اللاعنف أو “المقاومة اللاعنفية” التي نستطيع من خلالها تحقيق التغيير الاجتماعي أو السياسي، بعيداً عن استخدام العنف الجسدي، حتى لو كانت رحلة هذا الكفاح طويلة في سبيل إحلال التغيير المنشود.
يعدّ المؤرخون كتاب “الحرب لا تتفق مع دين المسيح”، الذي نشره ديفيد إل. دودج عام 1812، أول بيان رسمي للحركة اللاعنفية الناشئة. حاجج المؤلف في هذا الكتاب بأنّ علينا أن نمتنع عن ارتكاب العنف، حتّى من خلال المشاركة غير المباشرة فيه، أياً كانت الحيثيّات والظروف. يربط دودج مبدأ اللاعنف هنا بالدين المسيحي، ولو بحثنا قليلاً أيضاً سنجد أن الأديان جميعها، السماوية منها والأرضية، جعلت اللاعنف وسيلتها الأولى للتعايش الإنساني.
أما الحديث عن دعاة اللاعنف في القرن العشرين فسيقودنا مباشرة إلى تجربة المهاتما غاندي، فما فعله لم يكن مجرد ترسيخ للمبدأ، بل حوله إلى فلسفة حياتية كاملة، جسدت مفاهيم السلام والخير والحق بمنهج فريد، بعد أن شجع على العصيان المدني على نطاق جماهيري واسع ضد القانون البريطاني، بدءاً من “مسيرة الملح” التاريخية عام 1930، والتي تعدّ من أهم المسيرات اللاعنفية، حيث وسعت دائرة العصيان لتشمل كامل البلاد، وتنتهي بحصول الهند على الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1947.
أثبتت “مسيرة الملح” فلاح مبدأ اللاعنف في المقاومة، وفيها اقتحم المحتجون أحواض الملح التي تحرسها القوات الهندية تحت إشراف الضباط البريطانيين، بالرغم من معرفتهم أنهم قد يُقَابلون باستجابة عنيفة من القوّات الحكومية. وهذا ما جرى بالضبط، حيث انهال عناصر الشرطة بالضرب بالعصيّ على وجوه وأجساد المحتجين، فلم يقابلوهم حتى بحركات تلقائية لحماية رؤوسهم، ما أظهر بشدة وحشية السلطات ومدى رغبة المتظاهرين بالتغيير بالرغم من الأذى الذي يتعرضون له. استقطب غاندي حينها عشرات الآلاف من المناصرين بدافع الشعور الإنساني والسلمي، وحقق أول خطوة على طريق الاستقلال.
رأى غاندي أن النصر الناتج عن العنف مساوٍ للهزيمة، وعدّه سريع الانقضاء، كما أنه ربط اللاعنف بالانتصار بشكل واضح، حين خاطب أنصاره قائلاً “إننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا، ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل”، معتبراً أية جريمة أو إصابة ارتكبت أو سُبِّبَت لشخص آخر، وبغَض النظر عن القضية، “هي جريمة ضد الإنسانية”.
مهدت تحركات “غاندي” اللاعنفية التي جرت دون تخطيط ودون قواعد واضحة متبعة، لعمل الفلاسفة والباحثين، ومكنتهم من تحديد ركائز أساسية لنظرية اللاعنف، تقوم على مبدأ تقويض السلطة العنيفة من خلال سحب موافقة وتعاون الشعب معها عبر ثلاث آليات رئيسة للعمل اللاعنيف: آلية الاحتجاج والإقناع، بما يشمل المسيرات والاعتصامات، وآلية عدم التعاون مع السلطات والحكومات، وآلية التدخل غير العنيف، من قبيل عمليات الحصار واحتلال أماكن، والتواجد فيها والتخييم ضمنها.
شجع نجاح تجربة غاندي اللاعنفية الحركات الأخرى والجماهير وقادة الجماعات على اتباع هذه الآليات في العصر الحديث، وأصبحت أداة للاحتجاج الاجتماعي والتغيير السياسي، كاعتماد مارتن لوثر كينغ وجيمس بيفيل لمدرسة غاندي اللاعنفية في حملاتهم للفوز بالحقوق المدنية للأميركيين من أصل أفريقي، وحملات سيزار شافيز اللاعنفية في الستينيات للاحتجاج على أجور وأحوال عمال المزارع ضد ملاك الأراضي في أمريكا، كذلك ثورة 1989 “المخملية ” في تشيكوسلوفاكيا التي تمكنت من الإطاحة بالحكومة الشيوعية بطريقة سلمية.
قد يختلط مفهوم اللاعنف مع مفهوم المسالمة، لكن اللاعنف هو في النهاية فعل وليس عدم فعل، فعل إيجابي فاعل وليس فيه أي استسلام، ومنذ منتصف القرن العشرين تطور هذا المفهوم ليعكس الكثير من التكتيكات التي تهدف إلى التغيير الاجتماعي بعيداً عن استخدام القوة، كما أنه يختلف عن المسالمة في فرق جذري: مواجهة القمع والطغاة بشكل مباشر.
من ناحية أخرى، قد ينظر البعض إلى اللاعنف كمرادف لـ “الخوف والجبن والاستسلام”، ويردّ البروفيسور جين شارب، وهو أحد أهم الباحثين بشأن المقاومة اللاعنفية، على هذا الطرح بأن “العمل اللاعنيف هو أسلوب يستطيع به الناس الذين يرفضون السلبية والخضوع، والذين يرون أن الكفاح ضروري، أن يخوضوا صراعهم بدون عنف، وأن العمل اللاعنيف ليس محاولة لتجنب أو تجاهل الصراع، بل هو استجابة لمشكلة كيفية العمل بفعالية في مجال السياسة، لاسيما كيفية استخدام القدرات بفعالية”.
من التناقضات التي عانت منها البشرية أنها لجأت إلى العنف أحياناً للوصول إلى حالة اللاعنف! فقد رحبت الجماهير بالحرب العالمية الأولى بحماسة عاصفة، وانخرطت في التجنيد فيما ظنّته “حرباً لإنهاء جميع الحروب”، معتقدة بأن تحقيق السلام كفيل باستمراره، لكن تجارب المقاومة اللاعنفية أثبتت بأنها يمكن أن تكون الوسيلة والهدف، ولو أنها احتاجت وقتاً أطول، وقد أثبتت في كل مرة أنها طريق يصل في نهايته للغاية المرجوة بأسمى الطرق الإنسانية ودون إزهاق الأرواح، وهو ما نفترض أنه غاية إنسانية أولى.
بالطبع فإن الوصول إلى اعتماد اللاعنف وسيلة دائمة لتحقيق الأهداف يحتاج إلى درجة عالية من الوعي والإدراك الثقافي والسياسي والاجتماعي عند الأفراد والقادة والحركات، فهو يتطلب نفوساً عظيمة شبيهة بتلك “المهاتما” (الروح العظيمة باللغة السنسكريتية) التي امتلكها غاندي، بالإضافة لوجود غاية حقيقية ورغبة قوية بعملية التغيير، لا يتنازل عنها طلابها مهما كلفهم الأمر، ومن هذا المنطلق خصصت الأمم المتحدة يوماً دولياً للاحتفال بـ “اللاعنف” وتكريس مفاهيمه في 2 تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، وهذا التاريخ هو تاريخ ميلاد المهاتما غاندي.
كانت رحلة تحول اللاعنف من ممارسة إلى مصطلح محدد واضح المعالم والتفاصيل، شاقة بالفعل، وكلفت كثيرين من قبلنا جهداً وتضحية وعذاباً حتى نتمكن من فهم الغاية الأسمى من هذه الفلسفة، وهي سلامة وقدسية الروح البشرية التي من المفترض أن تكون قد خلقت على فطرة اللاعنف والمحبة والسلام.
لكن الصراع في القرن الحادي والعشرين يبتعد عن مبدأ اللاعنف كثيراً، فقد شهد العقدان الماضيان منه الكثير من الصراعات المسلّحة الدامية، وطغى فيه صوت الحرب على الأصوات العقلانية، فكيف يمكن ضمان استمرارية جنسنا البشري لو استمرت الأمور على هذا المنوال عقوداً أخرى؟ أعتقد أن علينا الدفع باتجاه استنهاض اللاعنف كوسيلة لتحقيق غاياتنا على المستويات كافة: الفردية والجماعية، المحليّة والدولية، فاللاعنف هو القوة التي تدعم الحياة من خلال الحياة.. لا من خلال الموت.