عبثاً حاول المذيع أن يسيطر على ضيفيه الأكاديميين اللذين اشتدّ خلافهما، وعلَت أصواتهما، وكاد الأمر بينهما يصل إلى حدّ الاشتباك بالأيدي مع نهاية اللقاء الحواري الذي دار حول موضوع «الديمقراطية كنظامٍ للحكم»! عندئذٍ تساءلت في نفسي عن سبب تكرار هذا المشهد الغرائبي المضحك المبكي الذي بات مألوفاً لدينا، فرحت أستذكر تفاصيل القضايا التي طُرحت في ذلك اللقاء، وتنبهت كيف سرد كلٌّ من الأستاذين مجموعةً من الأدلة والأمثلة والأفكار التي تتعلق بعنوان الحوار، ولكنّ أحداً منهما لم يقدّم تعريفاً واضحاً لمصطلح الديمقراطية يشكّل منطلقاً للحوار وأرضيةً صلبةً يمكن الوقوف عليها! فكان ذلك في اعتقادي السبب الجوهري في خلافهما، وهو أيضاً سبب جوهري في خلافاتنا جميعاً، وأكاد أجزم أن مرد أغلب المجادلات والصراعات الفكرية التي تدور بين الناس إنما يعود إلى عدم اتفاقهم على تعريفاتٍ تضع حدوداً للمفاهيم التي يتناولونها.
لقد دفعني ذلك الموقف إلى كتابة هذه السطور للتنبيه على خطورة إهمال التعريفات، ولاسيّما ما يتعلّق منها بقضايانا السياسية والاجتماعية والدينية؛ إذ إن الفهم الدقيق لأي فضاء معرفي يرتبط بفهم مصطلحاته التي تشكّل منظومة محددة الدلالات والمعاني، تمثل ما يشبه «الشيفرة» التي ينبغي أن يتفق عليها طرفا أي حوار أو نقاش أو مناظرة. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أننا سندخل في دوامة الفروقات بين مفردات مثل: «مصطلح»، «تعريف»، «مفهوم»، ولكن المراد هنا ليس الشرح والتفسير وبيان الفروق بين هذه المفاهيم المنطقية، بقدر ما هو إيضاح أهمية التعريفات في حياتنا، وما تضيفه المعرفة العامة بالمصطلحات من تسهيلات لاستخدامها بالطرق المثلى، فقد يتعدد استعمال اللفظ الواحد في علوم شتى بطريقة تجعله أشبه بالمشترك اللفظي، وهنا يأتي دور السياق ليوجه الدلالة المقصودة من المصطلح، ومثال ذلك مصطلح «المورفولوجيا»، وهو بالترجمة «علم البُنية»، فأنت تراه مستعملاً في علم النباتات، وعلم التشريح، وعلم اللغة، والفلسفة… وغيرها، منطوياً على دلالاتٍ خاصّةٍ في كل علم من هذه العلوم. والأمر ليس علمياً فقط.. بل وفي حياتنا اليومية أيضاً دون أن ننتبه، كأن يُطلب من أحدهم أن يُحسن تربية أولاده، فيأخذهم بالشدة والتضييق والترهيب والعقوبات، ظاناً بأنه يحسن بذلك تربيتهم، بينما المقصود من حسن التربية أن يأخذهم باللين والترغيب والحب.
لذلك فإننا إذا تحرينا الدّقة في تعريفاتنا للأشياء، ابتعدنا عن سوء فهم قد يفضي بنا إلى جدل بيزنطي لا طائل منه. ونكاد نجزم أنّ كثيراً منّا وقع، عفواً أو عمداً، في مثل هذه المجادلات ليستدرك في نهاية نقاشٍ محتدمٍ أنه لم يكن عليه إهمال الاتفاق منذ البداية على تعريف واضح للمفهوم موضوع النقاش، فمثلاً عندما يؤمن أحدنا أن «الحريّة» فطرة في الإنسان الرافض لكلّ أشكال التقييد، ويؤيد السعي الدائم وراء تحقيقها، فالغالب أنه سيصطدم بمن يتهمه بالتشبه بالغرب وثقافته بما فيها من انحلال أخلاقي وانفلات في القيم والمبادئ حسب رأيهم، وبهذا يكون فهمهم للحرية قد ابتعد كل البعد عن المعنى المراد، فالحرية هي دعم قدرة الفرد على اتخاذ قراراته بشكل مستقل دون تدخلٍّ خارجي، وهذه الحرية توجب بالضرورة أن يحترم صاحبها الأديان والتقاليد والقوانين السائدة في مجتمعه، كما تستتبع تحمل المسؤولية التي عادة ما تقترن بالحرية.
يكشف المثال السابق كيف لو أننا انطلقنا منذ البداية من تعريفٍ واضحٍ ومكثفٍ لمعنى الحرية، لكان سير عملية التواصل والنقاش في هذا الموضوع أكثرَ نفعاً وأدقَّ نتيجة. وفي سياق مشابه قد تتعدد التأويلات لمفهوم «الثقافة» تبَعاً لاختلاف ثقافات الأشخاص، وخلفياتهم الاجتماعية؛ فقد يفهم بعضنا من مصطلح «الثقافة» معنًى عامّاً شاملاً هو ذلك الذي يجمع تجارب مجتمع ما- مهما صغر- وعاداته وآدابه وطقوسه ومعتقداته وكل ما تتضمنه البنى التحتية والفوقية، بينما يفهم آخرون من مصطلح «الثقافة» معنًى أضيق، إذ تقاس ثقافة الفرد في مفهوم هؤلاء بمدى معرفته بالموضوعات الأدبية والعلمية. ثمّ إنّ للسياق الاجتماعي الذي يستخدم فيه مصطلح «المثقف» دوراً رئيساً في تحديد الدلالة، فرجلٌ محصوله العلمي متواضع لا يتجاوز حدّ إتقان الكتابة والقراءة هو رجلٌ مثقّف في مجتمعٍ عمّت فيه الأمّيّة، ولكن ثقافته تلك ليست شيئاً في مجتمع نال بعض أفراده درجة وسطى من التعليم، وبَدَهيٌّ أنّ ثقافة هؤلاء جميعاً لن يكون لها حضور في مجتمع يزخر بالأدباء والعلماء.
ومن جانبٍ منهجيٍّ تربويٍّ تحظى التعريفات بأهمية كبرى؛ فهناك ارتباط عضويٌّ بين مفردات موضوع ما وأفكاره من جهة، والتعريفات التي تلخّص ذلك كلّه من جهة أخرى، لذلك فإن إهمالنا للتعريف أو استخفافنا به يشبه إهمالنا لحجر الأساس في البناء، ولكن مما يؤسف له أنّ الطالب في المدارس كثيراً ما يمرّ بالتعريفات غير آبهٍ بها مضيعاً على نفسه بذلك نفعاً عظيماً، فهو يتعامل مع التعريفات تعامله مع المقدّمات التي تمهّد لكتابٍ ما، يحسب أنّها جزءٌ خارجٌ عن بنية ذلك الكتاب، لا ضرر في إهمالها، والحقيقة أنّ تلك المقدّمات تنطوي على فائدة عظيمة للقارئ، فهي جزءٌ رئيسٌ من بنية الكتاب وليست جزءاً يمكن الاستغناء عنه، لأنها مفاتيحُ لأبواب ذلك الكتاب تقدّم للقارئ فكرةً موجزةً عن مضموناته. وهنا يبرز دور المعلّم الذي عليه أن يوضّح للطلاب أنّ فهم الموضوع لا يكتمل إلا بربطه ربطاً وثيقاً مع تعريفاته حتى لا يكون همِّ الطالب حفظ تلك التعريفات وكأنها شيءٌ مستقلٌّ أو معزول عن ذلك الموضوع.
ولعل أخطر الاختلافات في عدم اعتماد تعريف واضح ودقيق ينصب في المجالات السياسية والدينية، والمثال الأشهر في تاريخ الفكر الإسلامي على ذلك هو منشأ فرقة «المعتزلة»، فكما تنقل السرديات الإسلامية يعود منشأ هذه الفرقة إلى الخلاف الذي نشأ بين «الحسن البصري» وتلميذه «واصل بن عطاء» حول حكم مرتكب الكبيرة ومنزلته أكافر هو أم مؤمن؟ ذلك الخلاف الذي بدأ فكرياً، وانتهى دموياً، واستمر لعشرات السنين. وكذلك شكل الاختلاف في طبيعة المسيح انقسامات كبيرة في الكنيسة نُتج عنها حروب طاحنة بين الطوائف المسيحية. ومثل ذلك، في المجال السياسي، تحديد تعريفٍ دقيقٍ لـ«الإرهاب»، فهل يعدّ المدافع عن أرضه ضدّ المحتل إرهابياً؟ أم هل يعدّ ناقل العنف إلى الآمنين في أرض العدوّ إرهابياً؟ ولنتذكر أنّ عدم اصطلاح العالم على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لمصطلح «الإرهاب»، ومثله مصطلحات سياسية أخرى، أدّى في حالات كثيرة إلى أزمات كبرى وحروب طاحنة واجتياح دول، وطمس حضارات، وتشريد شعوب، وتغيير للجغرافيا والتاريخ.
وبعد… فإنّ الناس خُلقوا مختلفين، فإذا كانت دلالة اللفظ الواحد تختلف بين الأشخاص باختلاف تجاربهم وثقافاتهم ضمن المجتمع الواحد، فمن باب أولى أن يختلف فهمهم للمصطلحات الإشكالية، ولاسيّما تلك التي تحمل دلالات تجريدية، وهنا يأتي دور التعريف المكثف والدقيق الذي يلم شتات الأفكار والمفاهيم. لذلك ليست التعريفات ترفاً علمياً يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه، بل من الواجب الذي لا مناص منه إعطاء التعريفات الاهتمامَ الذي تستحقه منذ مراحل الدراسة الأولى، وما أقبح ذلك الموقف عندما تسأل أحداً عن تعريفٍ لموضوع ما في صلب اختصاصه، أو تطلب منه شرح مصطلح يُفترض أنه من المسلمات عنده، فتُفاجأ بعدم معرفته به! أو تراه في أحسن الأحوال يعطيك فكرة عامة لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذا دليل قاطع على خلل جوهري في بنية التعليم مما يولّد ضعفاً في النتائج لاحقاً، ويؤدي مع تقدّم السنوات إلى ضياع جيل بأكمله هدفه الأول تحصيل نتائج جيدة فقط، دون الاهتمام بجوهر المعلومات وتخزينها للاستفادة منها، تخيلوا مثلاً لو أنّ قاضياً ما أشكل عليه تعريف بسيط لمادة من مواد القانون كالفرق بين (القتل العمد وشبه العمد والخطأ)، فلنا أن نتوقع الحكم الجائر الذي سيصدره إما في حق الجاني أو في حق المجني عليه وأهله.
إن ضياع التعريفات وعدم المبالاة بها اليوم يجعلنا أمام أزمة حياتية تتطور باستمرار غذاؤها الأساسي الجهل المطبق بأهمية التعريف، واعتباره من كماليات المعرفة، يوجد كبداية أو مقدمة للموضوع أو البحث، وبالتالي لا نقيم له وزناً ولا نستزيد منه علماً.
ورغم ذلك.. لعلك عزيزي القارئ لاحظت أنّنا تكلمنا على «التعريف» حتى الآن من غير أن نقترح تعريفاً للتعريف ذاته، وقد يكون ذلك خطأً منهجياً في البحث من الناحية العلمية، بل قد يبدو في ذلك تناقضٌ مع ما دعونا إليه ههنا، ولكننا لم نرد أن نقحم أنفسنا في دهاليز الفلسفة وتعريفاتها وحدودها معتمدين على أنّ لدى كلً منّا تصوّراً -ولو بالحد الأدنى- لمفهوم «التعريف» يسمح على الأقل بتحديد الفكرة وتوضيح المعنى وتوفير الجهد وتضييق الاختلاف، على قاعدة أن كل ما لا يمكن تعريفه لا يمكن الاتفاق عليه.. كما لا يمكن تعليمه ولا تعلمه أيضاً.