حسن اسميك
ظننت أنه سيكون حواراً شيّقاً، لكنه كان شاقاً في ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه مع أحد “المثقفين” العرب الذين بات يُشار إليهم بالبنان، ولكن بدل أن يمضي حوارنا بعيداً في الثقافة، ذلك الحقل الذي أحب، سرعان ما انحرف الحديث إلى جدال عقيم حول المثقف، تعريفه ودوره، ثم عن قوة تأثيره، سواء الواقعية أو المفترضة. أما مشاعر الحماسة والتشويق فسرعان ما تبدلت نحو الإحباط واللامبالاة، لينتهي الحوار بيننا كسقط المتاع، دون أن يرغب أحد في استمراره.
اعتقدت في البداية أن اجتماعي “بصديقنا” المثقف سيمنحني وعن قرب، فرصة الاستزادة من فكرة الثقافة ومفهومها وإشكالاتها التي تشغلني، لأني كنت وما زلت، أفتش عن فهم أعمق للعلاقة الجدلية التي تربط المجتمع بالثقافة، وتربطها به، وكيف أصبح كلا هذين المفهومين جزءاً أساسياً في تكوين الآخر. غير أن صديقنا “المثقف” لم يكد يذكر المجتمع إلا لماماً، خاصة في تجهيله والتقليل من شأنه، مقابل ذلك جرت كلمة “النخبة” وجملة “نحن النخب”، على لسانه أكثر بكثير من كلمة الثقافة ذاتها موضوع حوارنا.
لا أنكر وجود النخب في المجتمعات، ولا أؤمن بالأيديولوجيات التي تدعو إلى إلغاء “النخبة”، سواء على المستوى الواقعي أو المفاهيمي، ولا بحججها المتعلقة بتحقيق العدالة أو المساواة أو إلغاء كافة أشكال التمييز، ورغم أهمية هذه الأهداف وقيميتها، فإن تحقيقها لا يكون بالطريقة التي تنادي بها هذه الأيديولوجيات من مبدأ القضاء على المرض بالقضاء على المريض ذاته. بالمقابل قد أبرر لكثير من النخب نظرتها الفوقية للمجتمع، وأتفهم ذلك وأستطيع تفسيره بشكل موضوعي يتعلق أحياناً بالتنشئة أو برغبة الطبيعة البشرية وميلها نحو السلطة والتميّز، أو حتى بالحفاظ على مصالح فئة معينة والدفاع عنها. ولكن هذا الأمر ينطبق على نخب المال أو المكانة الاجتماعية أو السلطة والسياسة، أما أن تصبح بعض “النخب المثقفة” مَلَكية أكثر من الملك فهذا ما يضعنا أمام أسئلة كثيرة تتعلق بالمثقف العربي ودوره، وبنقد تكوينه وتقييم أدائه، وبمحاولة الكشف عن الأسباب التي أدت اليوم إلى نشوء “نخبة” ثقافية تمارس نخبويتها على أساس القطيعة شبه التامة مع المجتمع، عبر تجهيله والتقليل من شأنه، واتهامه بالتخلف والقصور في الوعي وفرض الوصاية عليه، حتى صار بعض مثقفينا حبيسي أبراجهم العاجية، بعد أن أغلقوا أبوابها من الداخل وأنكروا وجود المفتاح.
ويبدو أن موقف الإقصاء والتهميش، والتعالي أيضاَ، الذي تمارسه بعض النخب الثقافية تجاه المجتمع، يستمد أسبابه من محاولة المثقف النخبوي التماهي، ولكن بشكل لا واعٍ، مع غيره من النخب ذات السمات الأوضح والتأثير الأكبر، خاصة النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، رغم أنه يحاول أن يمارس بشكل واع الدور ذاته الذي يمارسه تجاه التقليل من شأن “العامة” (بحسب تعبيره) وفرض وصايته على الجميع .
وكما ذكرنا أعلاه، فإن ما يبرر لبقية النخب لا يمكن تبريره للمثقف حين يصبح نخبوياً بهذا المعنى تجاه المجتمع، إذ يكمن الخلل بداية من الناحية المفاهيمية المتعلقة بمصطلح الثقافة ذاته، وهو المصطلح الذي تجمع أغلب الدراسات على منشأه الاجتماعي العام، والذي يختزن مجمل العادات والأفكار والمعتقدات والسلوكيات والقيم التي تؤمن بها جماعة ما وتتبناها في القول والفعل والممارسة العادية، في جميع أنماط العيش بدءاً من المأكل والمشرب والمسكن والمهنة، وصولاً للمعتقدات والفنون والآداب ومنظومة القواعد الأخلاقية.
وبناء على ذلك فإن الدور الحقيقي للمثقف لا يجب أن يغادر حيّز الثقافة هذا، بل إن مهمته الرسولية تنطلق نحو تكريس ما ينبغي أن يكون بناء على ما هو كائن في المجتمع بالفعل، لا بناء على الرفض والإقصاء والتهميش. وفي الحقيقة فإن محاولة المثقف إقصاء وتهميش مجتمعه لن يؤدي إلاّ إلى انسلاخه هو عنه، وبالتالي فقدان مشروعية وجوده كمثقف أصلا، إذ لا وجود للثقافة خارج الوسط الاجتماعي العام الذي يحملها.
وهنا يبرز تساؤل مهم لعله يصيب كبد المشكلة قبل أن يصيب كبد الحقيقة، هو تساؤل عن الأسباب التي تجعل المثقف ينجرف في هاوية إقصاء المجتمع والانقطاع عنه؟
ونحن هنا في صدد طرح التساؤلات بهدف تحديد المشكلة، ولسنا في صدد البحث عن الإجابات عنها، فهذا أمر يحتاج كثيراً من الجهد والبحث-مما لا يتسع له المقال في هذا المقام- غير أن أول مؤشرات تحديد المشكلة ينطلق من ضرورة التفريق بين المعرفة من جهة، والوعي الذي ينبغي أن يتطابق مع هذه المعرفة، ومن ثم يُبنى عليه السلوك الإنساني عموماً، وسلوك المثقف على وجه الخصوص. ونقصد هنا أن ما يجب أن يختص به تأثير النخبة الثقافية ويميزها عن غيرها من النخب إنما يرتبط بالمعرفة بالدرجة الأولى، على العكس من تأثير النخب الأخرى خاصة في مجالي السياسة والاقتصاد. لكن يبدو أنه ثمة هوة أصبحت واسعة بين سلوك شريحة واسعة من المثقفين وبين معرفتهم، ومؤشر ذلك أنهم أصبحوا في كثير من الأحيان من فئة الذين يقولون ما لا يفعلون، ويحكمون بما لا يعرفون، ويتجرأون على ما يجهلون.
إن نرجسية بعض المثقفين العرب اليوم، وغرورهم غير المفسر وثقتهم المطلقة برأيهم، ووقوعهم في فخ الانتقاء المعرفي القائم على الرغبات أكثر منه على الأدلة والمعطيات، كلها أمور أدت عند بتلك النخب المثقفة إلى فصل المعرفة، مهما بلغ شأنها، عن الانتفاع بها واستخدامها كأداة فعّالة للتأثير والتغيير الإيجابي الذي يقدم المثقف نفسه كقائم به أو وصيّ عليه.
وبالعودة إلى صديقنا المثقف، الذي افتتحت بسيرته مقالي هذا، وهو صاحب عدة كتب، ومئات المقالات واللقاءات التلفزيونية والمحاضرات الفكرية، إذ بينما كنت أتطلع من الحوار معه إلى رأي جديد حول كيفية قيام المثقف بدوره في سبيل تحقيق التنوير ورفع سوية الوعي العام، رأيته على العكس تماماً يخلي مسؤولية المثقف عن هذا الدور، مبرراً ذلك بأنه ليس ثمة أمل يُرتجى من “العامة” الذين انشغلوا عن الثقافة بما سمّاه تفاهات الحياة وسفاسف الأمور، ولما حاولت إيضاح فكرتي حول أن الأزمة ليست أزمة عامة (بحسب مصطلحه) بل أزمة شريحة من المثقفين أنفسهم؛حين فشلوا في توجيه انتباه المجتمع واهتماماته نحو الجهة التي يريدونها هم، ولو استطاع هؤلاء المثقفون أن يلامسوا مشكلات المجتمع واهتمامات الناس العاديين لأصبحوا بحق صنّاع رأي وقادة تغيير، لكنه سرعان ما قاطعني واصفاً المثقفين بالغرباء والمقصيين نتيجة تميزهم ورقي تفكيرهم مقارنة بالآخرين. عند هذه النقطة أدركت أن طريقاً مسدوداً سيمضي فيه حوارنا بعد نفق مظلم!
ليست قصتي مع صاحبنا المثقف مجرد قصة شخصية أو حالة فردية؛ بل أنني أراها تكاد تكون ظاهرة عامة لدى عدد لا بأس به من حاملي لقب المثقف الذين يصرّون على تصنيف أنفسهم في فئة النخبة، وهم غير منتبهين إلى أن النخبة لا يمكن أن تستقل عن المجموع الذي تنتمي إليه، وأن سمات أي نخبة لا تتحدد من داخل دائرة النخبة ذاتها، بل من خارجها المحيط بها، والذي هو صاحب الكلمة الأخيرة في منحها هذه الصفة.
ورغم أن العرب استخدموا قديماً مصطلح “الخاصّة” مقابل “العامّة” للتعبير بشكل قريب عن من نسميهم اليوم “النخبة”، فقد ارتبطت دلالات مصطلح “الخاصّة” بالمسؤولية المضاعفة الملقاة على عاتق فئة قليلة من أصحاب العلوم والفنون والفلسفة والآداب، والذين رأو في أنفسهم القدوة، لا لمجرد رغبتهم بذلك، بل لإدراكهم للدور الذي يؤدونه، وللتأثير الذي يحدثونه في الشأن العام من حولهم.
وتأسيساً على ذلك،لا بد لهذه الشريحة من مثقفينا من أن تتواضع وتنزل من أبراجها العاجية لتلامس هموم ومشاكل مجتمعاتها؛بحيث تتعاطى معها بإيجابية وتفهم كبير لتساعدها على النهوض من واقعها المأزوم والمتخلف عن ركب المجتمعات المتقدمة،فلا بأس أن يراجع ذلك المثقف أطروحاته وأفكاره حول مجتمعه،وكما قال الشاعر شكسبير:”وحده المثقف يعيد النظر في نفسه كل يوم، ويعيد النظر في علاقته مع العالم ومع الأشياء كلما تغير شيء في حياته”.