حسن اسميك
لم يطل الأمر بالإنسان الأول بعد اكتشافه حاجة جسده للطعام من أجل الاستمرار، حتى اكتشف حاجة روحه إلى نوع آخر من الغذاء، بدءاً من “تذوق” الجمال الكامن في الطبيعة ومن ثم في نفسه، وصولاً إلى التعبير عن مشاعره وأحاسيسه، أو ترجمة ما يتلقاه ويُحسّه من ذاك الجمال، سواء بالكتابة والرسم على جدران الكهوف، أو بالتعبير اللفظيّ، أو عبر محاكاة الأصوات التي يسمعها في الطبيعة. وهكذا وُلدت الفنون ونمت مع البشرية وشكلت ركناً أساسياً من حضاراتها المتعاقبة، وجزءاً لا يتجزأ من تفاعل الإنسان وتواصله مع الآخرين، ومع الأجيال السابقة واللاحقة.
وقد ارتبطت الفنون الإنسانية منذ بدايتها الأولى بالعبقريّة والإبداع، ونجحت في إشباع رغبات الإنسان الرُّوحية ورسم فضاء ثقافة المجتمعات والتعبير عن رقيّها، فصارت بذلك وسيلة من وسائل رقي النفس الإنسانية ونتيجة له في الوقت نفسه. ثم تطورت الفنون حتى أصبحت، بمختلف أشكالها، “المصدر الثالث لفهم الحضارات، بعد الدّين والفلسفة” حسب تعبير هيغل، رائد الفلسفة المثالية الذي يرى أن الدّين يعطي الإنسان التوازن الداخلي، والفلسفة تعطيه الرؤية لكيفية الحياة، أما الفن يعطيه التواصل مع بقية أفراد المجتمع”.
قد تبدو مقدمتي هذه طويلة بالنسبة الى ما أودّ مشاركته هنا، لكنها ضرورية لفهم مدى الضرر الذي قد يلحق بالمجتمعات والحضارات حين تنحدر فيها الفنون آخذةً في طريقها ثقافة المجتمع، وربما أجياله القادمة، بخاصة حين يكون سبب هذا الانحدار وضع الفن -لا سيما الموسيقى والغناء- في خدمة السياسة ومؤسسات السلطة، وتحويله إلى أداة “مأجورة” تعمل في سبيل التطبيل والتزمير لأصحابها، ثم يغدو هذا الفن المستلب، وبشكل مأساوي ومشوّه، معياراً “للوطنية” في مرحلة ما، وسآتي على هذا لاحقاً في المقال.
تنبع أهمية الموسيقى، والغناء الذي يتبع لها بطبيعة الحال، من أنها تنفرد عن بقية الفنون بكونها مشروطة بنشاط الإنسان، فالأدب والشعر موجود في اللفظ، والفنّ التشكيليّ موجودٌ في الطبيعة، لكنّ الموسيقى هي فنٌ اصطناعي يلزمه تدخلّ الإنسان، رغم أنه بدأ بمحاولة محاكاة الأصوات العشوائية الموجودة طبيعياً، ثم تطوّر مثل بقية الفنون من كونه وسيلة للتعبير والتقرّب من “الآلهة”، في مجتمعات الوعي الأسطوري حتى صار مرتبطاً بقضايا المجتمع الذي ينشأ فيه ومتبنياً لها، وبات وسيلة مهمة لإيصال رسائل إنسانية أو اجتماعية أو سياسية، مع احتفاظه بقدرته العالية على التعبير عن الجمال وملامسة الروح، وبالتالي التأثير في العقول والقلوب معاً، ورفع صاحبها إلى مرتبة “الإنسان الكامل” حسب تعبير الشاعر الألماني “غوته”.
استخدمت المجتمعات البدائية الموسيقى لغايات محددة كاسترضاء “إله الشفاء”، أو “إله السقاء” لاستنزال المطر وطلب الخصوبة، واستعمل السومريون آلات موسيقية مميزة في احتفالات “آلهة الشمس والحرب”، ولعلّ هذه المظاهر تعبرّ عن أولى أشكال التقرّب من “القوى الكبرى” بمعانيها المختلفة عبر الغناء والألحان، وتعدّ الملحمة البابلية الشهيرة: “إينوما إيليش” والتي تجسد قصة “الخلق البابلي”، من أقدم وأجمل ملاحم العصور القديمة، وقد وضعت لتمجيد وتعظيم “الإله مردوخ” الذي انتصر على قوى العماء والسكون، ثمّ شطر جثة عدوته “تعامة” إلى نصفين وصنع منهما السماء والأرض، وتفرّغ بعدها لتنظيم الكون، وطبعاً كل ذلك بحسب ما ترويه الأسطورة.
ومع التطور الحضاري تطورت الموسيقى ومعها الغناء، فانتقلت من مجرد كونها أداةً لغرض ديني أو سحري، لتصير فنّاً مستقلاً وعلماً له قواعده. حتى صارت علامة بارزة على تطور تلك المجتمعات ومدى تمتعها بالتنوع والحرية والرفاه.. لذلك ليس غريباً أن جعلها أفلاطون إحدى قواعد جمهوريته الفاضلة، حين عرف أهميتها ومدى تأثيرها فذهب إلى القول بوجوب “استخدامها في خدمة الدولة كسائر الفنون الأخرى”، معتبراً أن النظر لها كمجرد “أداة لهوٍ وطرب رأيٌ فاسدٌ خاطئ”.
في الحقيقة، تستطيع الموسيقى أن تكون مجرّد أداة لهوٍ وطرب إذا أُهملت أو أُريد لها ذلك، وهذا ما تنبه له أفلاطون أيضاً، فدعا إلى ضرورة التشديد على مراقبتها وحمايتها من العبث والغايات الدنيئة بحسب وصفه، إذ تتسم الفنون الموسيقية بشعبيتها الكبيرة وسهولة وصولها للجميع، كما يمكن تلقيها بشكل عفوي وبسيط أثناء القيام بأيّ عملٍ آخر، والتأثرّ بها من دون وعي. هذا الأمر منح الفنون الموسيقية الرائجة في مجتمع ما أحد وظيفتين: إما القدرة على رفع مستوى وعي ورقيّ النفس البشرية، أو فِعل العكس تماماً، والانحدار بها نحو التفاهة والتسطيح، بخاصة حين يتم حصر انتاجها من أجل التجارة وتحقيق الربح، أو لخدمة السلطة وتلميع صورة أصحابها.
ويشير الفيلسوف الألماني “ثيودور أدورنو” الذي يعدّ أحد أشهر من كتب عن العلاقة بين السياسة والموسيقى، إلى أنّ “مما يسفه قيمة الموسيقى مع الوقت، هو إنتاجها بطريقة شعبية بمعايير شبه موحدة بهدف زيادة نسب المستمعين والتجارة، وهي بذلك تبتعد من الجودة المتعلقة بقدرة الموسيقى على إثارة الحس النقدي لدى المستمع وحثه على تحمل قدر أكبر من الحرية والاستقلالية”.
واليوم ينتشر شكلان هدّامان من الغناء انتشاراً واسعاً، فهناك التجاري الذي يسطحّ عقول الشباب والأجيال الجديدة، والآخر السياسي الذي يتجه نحو ترسيخ صورة ذهنية محددة، لا تتجاوز غايتها تمجيد أفعال السلطة، واجتراح “إنجازات” وهمية لها تجعل الناس يصدقونها! لتصب نتيجة ذلك كله في إرساء وتعميم ثقافة مشوّهة جوفاء، صميمها الولاء المؤطر بالتقديس والتبجيل، فتتحول “الموسيقى”، إن صحّت التسمية في هذه الحالة، إلى مسارٍ سلس لتمرير الأيديولوجيات وترسيخ الأنظمة، وإلى أداة ناعمة للتأثير على الرأي العام، أو توجيه انتباهه إلى حدث معين، أو صرفه عن آخر، على أن الخطورة الكبرى تتبدى حين يتحولّ هذا الفن إلى معيار للوطنية والانتماء، في حين يرمى كلّ من يرفضه ويناهض أثره في المجتمع، بالخيانة والعمالة، وإذا كان هذا المناهض من مزاولي الموسيقى، قد يمنع من عمله وتوضع في طريقه القيود والعراقيل.
أما الموظفون في عالم الموسيقى خدمة للسلطة، فلهؤلاء آثار هدّامة تفوق الآخرين، حيث يقتحمون مجالاً إبداعياً مؤثراً من دون أن يمتلكوا موهبة حقيقية، ويشيعون أنماطاً من الموسيقى تهوي بثقافة المجتمع نحو الدرك الأسفل، ممهدين لانهياره، كما يعتقد أوزوالد شبنغلر صاحب كتاب “انهيار الغرب”، والذي يرى في انحطاط الفنون دليلاً على انحدار الحضارة وانهيارها في نهاية المطاف.
والتاريخ الحديث يحفل بأمثلة كثيرة عن استخدام السياسيين في الأنظمة الاستبدادية للموسيقى والغناء خدمة لمشاريعهم وخططهم، فخلال الحرب العالمية الثانية، كان الاتّحاد السوفياتي مثلاً، قد أسسّ فِرقاً موسيقية كاملة لتحريض العسكر والتهليل لقادته، وبالمثل، استخدم النازيون بقيادة هتلر الأغاني الشعبية الألمانية في خدمة بروباغندا الحزب النازي… وهناك موسيقى قائمة بحد ذاتها تدعى “ليبانجا”، في جمهورية الكونغو الديموقراطية، تختصّ بتمجيد القادة السياسيين! كذلك فقد حرص قادة الحركات القومية التي سادت المنطقة العربية خلال ستينات القرن المنصرم، على وجود طائفة من المنشدين الذين من مهمتهم اجتراح المآثر للقادة والشدوَ بها في كل مقام.
في عام 1802 بدأ الموسيقي الألماني الشهير “بيتهوفن” في وضع سيمفونية وُصفت بأنها أول سيمفونية أيديولوجية في تاريخ الموسيقى، حيث أهداها لنابليون بونابرت الذي رأى فيه حاكماً عادلاً، ثم عاد ومزّق الإهداء حين رأى أن بونابرت يسير على نهج خاطئ، إن هذا المثال خير دليل على أن الموسيقى هي تعبير عن ارتباط الفنان بقضايا شعبه وزمنه، وأنها موقف وقيمة أخلاقية وإنسانية، فإذا خرجت عن هذا الإطار وتوقفت عن خدمة ذلك الهدف، لن تعدو أن تكون ابتذالاً أو تملقاً رخيصاً يهوي بصاحبها مما بلغ إبداعه.
عربياً، عرفنا على امتداد تاريخنا القديم والحديث الأغاني الوطنية التي تربط الإنسان بأرضه وبلده، أو تلك التي تنادي بالحرية وتشجب فساد وقمع السلطات، أدى ذلك إلى إدراك السلطة أهمية توظيف الفن وتسخيره للتأثير في الناس وقيادتها، من دون الاهتمام بنوعية الفن ومستواه، ودون الاكتراث بتأثير ذلك على حضارة المجتمع الذي تحكمه أو وعيه، بخاصة أن فلسفة الفن والبحث عن جوهره الحقيقي لا تحظى باهتمام القوى السياسية كثيراً، بل عادة ما يُكتفى منه بالبحث في كيفية توجيه هذا التأثير ليصب في مصلحتها بالدرجة الأولى.
أما الأمر المفارق والذي يستدعي الانتباه في هذا السياق، أنه حتى الجماعات السياسية الإسلامية والحركات الأصولية المتشددة، والتي تضع نفسها في موضع المعارض للأنظمة القائمة، تدرك ما للموسيقى وأشكال الفن الأخرى من تأثير في وجدان المتلقي وتوجيه مشاعره لمساندتها وتأييد أيديولوجياتها. لذلك، ورغم إصرار هذه الجماعات على تحريم هذه الفنون، فإنها تسعى غالباً إلى الالتفاف على الأمر من خلال بعض الاشتراطات والكيفيات التي تلغي التحريم أو تخفف منه، أو تحصره ببعض الأنواع الموسيقية من دون غيرها، وبذلك لا تفوتها الفرصة في جني ثمار الفنون أسوة ببراغماتية الأنظمة السياسية التي تعارضها، فتسخر الأصوات والنغمات الموسيقية لدعايتها الخاصة للتأثير في مشاعر الآخرين وكسب تأييدهم.
وسيبقى الصحيح رغم كل ذلك، أن الفن حين يخدم أهداف السياسة البنّاءة والمشروعة، أو يشير إلى إنجازات حقيقية للحاكم أو السلطة، فإنه يخدم المجتمع والدولة ويساهم في نشر ثقافة العطاء والبناء والاقتداء بسلوك الحكم العادل، وهو هنا يخدم قضية نبيلة تصبُّ في مصلحة الناس، أو يعبرّ عن إرادتهم وتطلعاتهم. أما التوظيف الهابط لبعض الأصوات، فذاك هو المرفوض والذي ينبغي التنبّه إلى خطره ومحاولة التفلّت من عواقبه، عبر نشر ثقافة مضادة تعكس حقيقة مستوى الشعب ووعيه وقضاياه وواقعه، وترفع منه.
إن بناء الحضارة لا يتطور في جانب من دون آخر، ولا على مكون وحيد بمفرده، بل يحتاج تكاملاً بين مختلف المكونات، بما في ذلك العلوم والاقتصاد والفنون، إذ تمثل هذه المجالات المؤشر الحقيقي للتقدم الحضاري، وبخاصة الفن الذي يعكس الواقع الحضاري في أبهى صوره وأقواها. أما حين يصبح الفن مجرد أداة بيد المستبدين فهذه جريمة لا تقع في حق الفن فحسب، بل وفي حق المجتمعات حين يبدأ انهيارها الأخلاقي والثقافي. لذلك كانت الفنون عبر التاريخ أقوى الفضاءات التي اعتمدتها الشعوب الحرة في التعبير عن نفسها وعن قيمها الكبرى، وعن فرحها وآمالها ورغبتها بالوقوف في وجه الاستبداد والظلم والانتصار للحياة والحق والجمال، إنّ الفن “ليس تعبيراً عن كل شيء جميل، وإنما هو التعبير الجميل عن كل شيء” كما يقول الشاعر اللبناني جورج جرداق.