حسن اسميك
نال موضوع الاستبداد حصة الأسد من الدراسات والبحوث والرؤى والأطروحات، تناقشه وتبحث في أصوله ودوافعه وتحاول تفكيك طبقاته والتعمق في ارتباطاته، فهو داء السياسة الأقدم والأشد والأكثر تأثيراً في حياة الشعوب، وفي حاضرها ومستقبلها وقدرتها على التقدم والنمو في جو من الانفتاح وحرية التعبير والإبداع والتغيير.
والاستبداد السياسي قديم قدم الحكم نفسه، فقبل زمن العقود الاجتماعية والاتفاق الرمزي بين الحاكم والمحكوم على الصلاحيات والحقوق والواجبات، كانت سلطة الحاكم غير محدودة، وكان بالتالي في بحث دائم عما يعطي هذه السلطة شرعية وجودها، أياً كان شكل هذه الشرعية، ليظل المحكومون خاضعين تابعين مسلّمين بما له من حقوق عليهم وراضخين لإرادته في كل شيء، ابتداءً من حياتهم الشخصية ووصولاً إلى قرارات الحرب والسلم.
لذلك، وقبل أن يدرك الحكام أنَّ بإمكانهم أن يستمدوا مشروعية سلطتهم من المحكومين أنفسهم ومن إرادتهم الحرة، كان “المقدس” هو مصدر الشرعية الأهم والأوضح الذي لجأ إليه الحاكم وحاول أن يسبغ شيئاً من “قدسيته” على الحكم الزمني، فنشأ ما بات يعرف اليوم بالأنظمة “الثيوقراطية”. ومثلما تعني “الديموقراطية” مثلاً “حكم الشعب” في الأصل اليوناني، تتكون كلمة ثيوقراطية من “ثيو” وتعني إله، و”قراط” وتعني الحكم، فيصير معنى المصطلح: “حكم الإله”.
الإله لا يحكم في الثيوقراطيات حكماً واضحاً، إنما تدعي السلطة القائمة شرعيتها من الذات المقدسة، ويدعي الحاكم أنه يحكم بوحي مباشر من الإله ويمارس السياسة باسمه، وأمام هذه “الإرادة الإلهية” لا يجوز سوى تقديم الطاعة المطلقة والعمياء للسلطة وللحاكم الذي كان إما مدعياً للألوهة (كما كان الحال في مصر الفرعونية، أو في حضارات بلاد بين الرافدين والصين وفارس) أو أنه صاحب “حق إلهي” إذ اختاره الإله لتنفيذ إرادته على الأرض، واليهود أول الذين عُرفوا بهذا النظام فقد كانت نصوص التوراة المصدر الوحيد للتشريع ولتنظيم شؤون الناس.
لقد ساد هذا النظام طيلة مراحل ممتدة من تاريخ البشرية، وانتشر في كل مكان تقريباً حتى القرن الحادي عشر الميلادي، عندما بدأت دعوات إصلاح السلطة الكنسية وفصلها عن السياسة. فقط مرحلة واحدة يمكن استثناءها من النظام الثيوقراطي، تلك هي مرحلة “زمن الفلاسفة” في أثينا وأخواتها، إذ لم يعتد اليونانيون الخلط بين الديني والمدني (بالطبع كان لهم نمط خاص من الاستبداد، لكنه مرتبط بالثقافة وليس بالمقدس، قد نتحدث عنه في مناسبات أخرى).
حتى الحضارة الإسلامية التي قام الحكم فيها أساساً على مبدأ “الشورى”، فقال الله تعالى: “وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ” (الشورى 38) “وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ” (آل عمران 159)، إلا أنها لم تسلم من حالات الاستبداد في الحكم، والتي كان أشد ظهورها أيام الدولة العباسية، فحتى أسماء الخلفاء التي اختاروها لأنفسهم باتت تظهر “ثيوقراطية” واضحة تربط الاستبداد بـ “المقدس”، من قبيل: المنتصر بالله والقاهر والقادر والراشد والمسترشد والمعتصم والمستنصر بالله والقائم والمستضيء والظاهر بأمر الله… وما شابهها. لكن هذه التجارب بقيت قليلة ومحدودة الأثر وارتبطت عموماً بالفترات التي عُرفت بعصور الانحطاط في الدولة الإسلامية.
أما في زمننا، والذي ما زال فيه الاستبداد السياسي قائماً في لبوسات جديدة و”حداثية”، حيث يستمد الحاكم سلطته من العسكر والاقتصاد والتكنولوجيا والميديا وغيرها، ضَعُف إلى حد كبير ارتباط الاستبداد المباشر بالمقدس، لكنه لم ينته، وما زلنا نجد دولاً تعتمد “الثيوقراطية” نظاماً للحكم، ويمارس فيها الحاكم أنماطاً من التحكم المطلق بناءً على تفويض مفترض ممنوح له من “الله”. وأوضح الأمثلة على ذلك هي “الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، ولسنا هنا بصدد التقييم بل هو مجرد توصيف لنظام الحكم، إذ لا يعد الرئيس الإيراني أقوى شخصيات البلاد، بل مالك القوة الفعلي هو “المرشد الأعلى للثورة”، ولم تعرف إيران بعد سوى مرشدين اثنين وهما آية الله روح الله الخميني (مؤسس الجمهورية) وخليفته آية الله علي خامنئي. وقد وضع الخميني هذا المنصب على رأس الهيكل السياسي الإيراني بعد إطاحة نظام الشاه محمد رضا بهلوي.
قد يتساءل البعض “لماذا كل هذا الحديث عن الاستبداد السياسي وعلاقته بالمقدس الآن؟” الجواب هو: الإرهاب التكفيري، والمليشيات الجهادية!
تستشري في المنطقة العربية اليوم آفة معقدة يمكن تسميتها بـ “الاستبداد المركب”، حيث يعاني الشعب من استبداد حكامه سياسياً، وتعاني المجتمعات العربية من استبداد الثقافات الأخرى –بخاصة الغربية– بها، كما نعاني من نتائج الاستبداد القائم في دول أخرى، والذي ينعكس حروباً ونزاعات في بلادنا، ونتيجة لكل ذلك ولدت ظاهرة التنظيمات الإرهابية في منطقتنا، وتلطت وراء عباءة “المقدس”، وما زالت تقتل وتخرب وتدمر حاضر بلداننا، وإذا لم نفعل شيئاً، فستدمر مستقبلها أيضاً.
يتعامل الغرب مع منطقتنا وكأنَّ الاستبداد قدرها ومصيرها المحتوم، حتى لقد أطلق فلاسفة ومفكرون كبار مصطلح “الاستبداد الشرقي” الذي يسطّح قضية عميقة كالاستبداد، ويختزلها بأن منطقة بأكملها محكومة بأن تعيش تحت نير التسلط والقمع والكبت إلى ما لا نهاية. فأرسطو يرى أن الاستبداد “كامن في الشرق لأن شعوبه تميل بطبيعتها إلى الاستبداد”، وهيغل (أبو الجدلية والعقلنة) يرى أن الحكم الاستبدادي هو “نظام الحكم الطبيعي للشرق”، والأمثلة الأخرى من هذا القبيل عديدة، ويتبناها للأسف كثيرون في الغرب اليوم، ومع ذلك لا يتوانى حكامهم عن دعم أنظمة استبدادية عربية، الأمر الذي يزيد من مشكلة الإنسان العربي ويضاعف معاناته، والعراق اليوم مثال واضح، فرغم أن قيادته تحظى بدعم غربي واسع، يعاني العراقيون من صنوف الاستبداد جميعها، استبداد الطبقة السياسية الحاكمة، والتي تتقاسم السلطة في ما بينها في محاصصة دينية/طائفية واضحة؛ كما يعاني من المليشيات المسلحة التابعة، أو في أحسن الأحوال، المرتبطة بنظم استبدادية خارجية؛ من دون أن ننسى المشكلة الأكبر أي التنظيمات الإرهابية من بقايا “القاعدة” و”داعش”، والاثنان تجسيد جلي لارتباط الاستبداد بالمقدس، إذ يدعي قادة هذين التنظيمين أو غيرهما من الجماعات الإرهابية المماثلة، امتلاك الحقيقة المطلقة (الدينية في هذه الحالة)، ويجعلون من واجب أي مؤمن الدفاع عن هذه الحقيقة التي صاغوها هم، ويلزمون الآخرين بـ “الجهاد” لحماية “الدولة الإسلامية” المزعومة، وحماية حاكمها “خليفة الله” على الأرض. وللأسف، تجد هذه التنظيمات بيئة تجنيد خصبة لدى الشباب المسلم الذي يعاني بالأساس من استبداد حكامه، ويظن أن المخرج فعلاً بيد هذه التنظيمات.
تُعمق هذه التنظيمات، وأنشطتها في المنطقة وخارجها، جرح الإسلام، وتسيء كثيراً لصورته، وتربطه بالاستبداد. ومع أننا لا ننكر أن الدين قد منح السلطة قوة ومنعة في التاريخ الإسلامي، لكنه في المقابل وضع لها حدوداً ودفعها نحو نيل قبول المحكومين ورضاهم وليس فقط طاعتهم. أي أن الإيديولوجيا كانت في السابق إيديولوجيا “إقناع” بهدف سَوس المجتمع وقيادته نحو الأفضل. أما الإيديولوجيا التي تصنعها الدول والقوى الثيوقراطية اليوم فهي أيديولوجيا “إخضاع” تجعل من مصالحها الشخصية أوامر إلهية، فيصبح الاختلاف معها وعصيانها أو حتى عدم دعمها ذنبا يوجب العقاب والجزاء.
يقول عبد الرحمن الكواكبي، أحد أبرز رواد النهضة العربية، في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”: “ينجرُّ العوام من البشر، إلى نقطة أن يلتبس عليهم الفرق بين الإله المعبود بحق، وبين المستبد المطاع بالقهر، فيختلطان في مضايق أذهانهم من حيث التشابه في استحقاق مزيد التعظيم، والرفعة عن السؤال، وعدم المؤاخذة على الأفعال”، إذن، فالمشكلة واضحة منذ زمن، والحل كذلك: لكي نحد من الاستبداد السياسي يجب فك كل ارتباط بينه وبين الدين، أي أن نرفع عباءة المقدس عن الاستبداد ليظهر عريه وقباحته، وليعلم الجميع أن الاستبداد السياسي لا دين له..