حسن اسميك
تعني الثقافة في أحد أوجه معانيها: إعمالَ العقل وخلقَ الأفكار واكتسابها، ومن ثم توجيه السلوك عبر مجموعة من المبادئ والمفاهيم، والثقافة في هذا الوجه ليست قيمة مثالية مطلقة، بل قد تحمل معنىً إيجابياً أو سلبياً. ثقافة “الإقصاء” مثلاً هي مجموعة أفكار تدفع الشخص لرفض الآخر المختلف عنه في الجنس أو العرق أو العقيدة.. وثقافة “احترام القانون” تعني أن يلتزمه الإنسان انطلاقاً من إحساس بالمسؤولية قبل الخوف من العقوبة.. وحين تسود ثقافة معينة في مجتمع ما، تصير هذه الأفكار كالعدوى تنتشر بين الناس وعبر الأجيال، وتبعاً لهذا المبدأ، حُكم علينا عربياً بانتشار ثقافة “العنف” على كل المستويات الفردية والجماعية خلال عقود طويلة، حتى بات الانتقال إلى إحلال ثقافة “اللاعنف” طريقاً شائكاً، لكن.. لابد من خوضه!
إن القيم والاتجاهات هي إحدى العناصر الجوهرية في ثقافة مجتمع ما، وفي حين تُستَمد الأولى بشكل عام من الدين أو العقيدة التي تؤمن بها تلك الجماعة، نجد أن الاتجاهات تُصنع نتيجة تراكم الموروث الاجتماعي للسلوك البشري، وطريقة تنظيم هذه العلاقات بين أفراد المجتمع، وكلتاهما أي القيم والاتجاهات، تخضعان إلى مجموعة محددات أخرى ترتبط بالبيئة والتاريخ والتنوع الفكري والبشري..، وتغيير هذه الاتجاهات أو القيم ليس عملية سهلة بكل تأكيد، ولا يمكن بأي حال تحديد إطار زمني للقيام بها أو تلّمس نتائجها، لكن لا يقلل من ضرورة التأسيس لها بشكل تراكمي حين تتوافر الإرادة والعزم.
نحن الآن أحوج ما نكون إلى إيجاد مخرج حقيقي من حالة الفوضى والعنف والإرهاب التي تكاد تُغرقنا، نجد أن ثقافة اللاعنف لا تزال بعيدة عن أذهان صانعي السياسات أو الأحزاب ووسائل الإعلام و قادة الرأي العام في معظم مجتمعاتنا العربية، وفي وقت تتغلغل فيه مفاهيم العنف ورفض الآخر في كل مفصل من مفاصلها على كل المستويات، بدءاً بالتعليمية والاجتماعية وليس انتهاءً بالاقتصادية والسياسية، ورغم أن ثقافة اللاعنف صارت فلسفة عالمية معترفاً بها، تضع الدول خططاً ومنهجيات لتأصيلها، إلا أن تداولها في أوساطنا الثقافية والاجتماعية مازال خجولاً حتى اليوم، والسبب في ذلك هو الخلط الواضح بين قوة اللاعنف وضعف الاستسلام، وهذا أمر متصل حتماً بالتأخر الحضاري (المفاهيمي والعملي) الذي تعانيه مجتمعاتنا.
تبدأ المسألة من الجدل الأزلي حول أصل العنف، فهل هو طبيعة وغريزة في الإنسان أم أنه ثقافة مكتسبة، وفي الحقيقة فإن علماء النفس والاجتماع يتفقون على أن العنف نفسه يمكن تقسيمه في اتجاهين: عنف من أجل البقاء وعنف بقصد الأذى والسيطرة؛ فالعنف من أجل البقاء أو الدفاعي هو صفة يشترك فيها الإنسان مع الحيوان، وقد كان وسيلة للبقاء في أولى مراحل وجود الإنسان. لكن حين نصل الى مرحلة من الحضارة يمتلك فيها الإنسان كل شيء ويعمل العقل في أعلى مستوياته فأي مبررٍ لبقاء العنف واستمراره؟ وكيف لا تكون سيادة مبدأ اللاعنف وثقافته هدفاً إنسانياً تدفعه التجارب المريرة التي مرت بها الشعوب بالدرجة الأولى؟
نجحت ثقافة اللاعنف التي تمزج بين الجانبين الإنساني والسياسي في التأسيس لحركات لاعنفية في مناطق مختلفة من العالم، فقد عرفت كل قارات العالم حركات لا عنفية حققت أهداف الشعوب التي قامت بها، كتلك التي شهدتها النرويج والدنمارك وهولندا في مقاومة الاحتلال النازي، أو التي قامت في التشيك والسلوفاك ضد السيطرة السوفياتية وغيرها الكثير في جميع أرجاء العالم، ووفقاً لبعض الإحصائيات، فقد نجحت الحركات التي تبنت مذهب اللاعنف لتحقيق أهدافها بنسبة تقارب الـ 82% من الحالات.
وبما أن التغيير في هيكلية المجتمعات يأخذ شكل البناء، إذ يبدأ من الأرضية الفكرية أو الفلسفة، حتى يصل إلى السياسات، ومن ثم الاستراتيجيات والتكتيكات التي توضع موضع التنفيذ، لذلك فإن البناء التغييري لنقل مجتمعاتنا من ثقافة الحرب والعنف إلى ثقافة اللاعنف يحتاج قاعدة فكرية لا تزال هشة وضعيفة، ويتوقف نجاحه على وجود مفكرين يصوغون التصورات الكبرى ثم يقودون المسار الواضح الأهداف، من دون خوف من نكوص أو فشل مردّه عدم وضوح الهدف أو قلّة في الإدراك.
ورغم أن اللاعنف بدأ من الفعل، واجتاز طريقاً طويلةً حتى وصل إلى مرحلة بلورة مصطلح ثم فلسفة قائمة، يُنظّر اليها أشخاص تحولوا إلى قادة فكريين لحركات أخرى مماثلة، بدءاً من ديفيد إل. دودج ومروراً بغاندي ومارتن لوثر كينغ وجين شارب وجان ماري مولر، ما زلنا نعاني في معظم بلداننا العربية من غياب الفعل والفلسفة (وما زلنا حتى اليوم نفتقد علماً بارزاً، مثقفاً أو قائد رأي أو مصلحاً أو سياسياً أو رجل دين، يمكن وصفه بقائد فكري يكرس جهده لثقافة اللاعنف)، ويكاد تزاحم العوامل التي تعيق تشكلّ ثقافة لا عنفية واضحة المعالم لدينا، الأمر الذي يدفع بنا إلى الشك في إمكان حصولها قريباً، فهي تتطلب جهداً جماعياً يبدأ من الأسرة والتربية ويتصاعد مع الدوائر التي ينخرط بها الفرد اجتماعياً وسياسياً..
فالإنسان يتعلم الحوار والتسامح من البيت والمدرسة، وليس خافياً غياب هذه البيئة أو ضعفها في معظم مجتمعاتنا العربية، التي يعاني فيها الإنسان من القهر والحرمان والاستبداد ويغدو بالطبع عنيفاً خصوصاً مع من هو أضعف منه (ابنه أو زوجته أو تلميذه)، وتنسحب هذه السلوكيات على الصعد كافة التي يمارس فيها الإنسان نشاطه العادي، فيمارس العنف ويورثه للآخرين، والنتيجة مجتمع مضطرب تتسع فيه دوائر العنف وصولاً إلى المستويات السياسية، فلا يجد الفرد طريقة للتعبير سوى الأساليب العنيفة، وهذه هي بذرة الحروب الأهلية والدولية في المقام الأول: إنسان مأزوم.
وإذا ما أردنا الحديث عن الأحزاب أو أشكال التنظيمات الأخرى التي ينضوي فيها الإنسان العربي، سنجد أنها بمعظمها لا تولي مسألة التوجه اللاعنفي أهمية كبرى في خطابها، هذا إذا لم تكن تعتمد بشكل كامل على خطاب عنفي أو محرّض على العنف، وهي في معظم الأوقات تستخدم أتباعها في أعمال تتسم بالعنف، أو تزجّ بهم في حروبٍ لا تنتهي خدمة لأجنداتها أو مصالح بعض الأشخاص. في حين يغيب دور فاعل للمجتمع المدني والمؤسسات الراعية لحوار حقيقي، يتيح لنا المطالبة بحقنا والاعتراف بحق الآخرين في الوقت نفسه.
في الحقيقة تعاني مجتمعاتنا العربية من حالة “شرعنة العنف”، فنجد أن الثقافة السائدة تميل إلى تمجيد الحرب ووصفها بالأعمال البطولية أو المقاومة، من دون اعتبارٍ لما تقوم به من “تفريخ” أجيال لا تفهم سوى لغة الإقصاء والقتل والتدمير، وفي أحيان كثيرة تُلبس العنف ثوب الدين، لتستميل أكبر عدد ممكن من أتباعه، كذلك سعت الأيديولوجيات الشمولية التي اجتاحت المنطقة منذ منتصف القرن الفائت إلى تحويل كل اختلاف إلى صراع عنفي إلغائي مع “عدو دائم”، وبررت هذه الأيديولوجيات بكل أشكالها التضحية بالبشر بحجة “الغايات النبيلة”، فكانت النتيجة تدويراً لا ينتهي للعنف بكل أشكاله على أرضنا العربية.
وأعتقد أن فشل كثير من ثورات “الربيع العربي” إنما يعود بالدرجة الأولى إلى غياب أرضية فكرية مؤسسة على ثقافة اللاعنف، تخاطب العقل لا الغريزة، وتدير الصراع مع الأخذ بالحسبان الطبيعة الديمغرافية والثقافية للمنطقة العربية، أو تضع أهدافاً واضحة تصب في مصلحة الشعوب، وآليات فعالة لتحقيقها، ولو أن هذه الثورات لم تتخذ الشكل العنيف في أماكن كثيرة، لكانت قد حظيت بقاعدة شعبية أكبر وربما شهدنا لها نتائج مختلفة.
إذن فغياب البيئة المساعدة على نشر ثقافة اللاعنف يستلزم وجود أشخاص مطّلعين ومؤثرين، مفكرين أو قادة رأي، يضعون أساساً فكرياً لإنارة هذا الجانب في حياة الشعوب العربية، وأقول الإنارة هنا لأن هذه الثقافة مثلما تتعرض إلى عراقيل كثيرة، تتمتع بأسس غير قليلة يمكن الانطلاق منها، أولها وأهمها الأديان وتأثيرها والتي تنادي بالتسامح والمحبة وقبول الآخر، وتدعو في صميمها إلى السلام والجنوح إليه، إلى جانب تجارب حيّة لبلدان عربية تعمل من دون كلل على السير بشعوبها نحو ترسيخ السلام وبناء ثقافة لا عنف متينة في سلوكهم، بدءاً من الاهتمام بالتعليم وتحسين الأوضاع الاقتصادية والصحية لهم، وفتح مجال التقارب والتعارف مع “الآخر” المختلف، والتعرّف الى النقاط الإنسانية المشتركة بينهم.
بالطبع، أنا لا أقول إن العنف موجود فقط في ثقافتنا العربية، ولا أطالب بالوصول إلى حالة “مثالية” من اللاعنف، لكن زراعة ثقافة نيل الحقوق بالطرق السلمية تتيح مجالاً أوسع لإيجاد حلّ قبل أن تتصاعد الأزمة أو الصراع مهما كان شكله، فكل طرف يدّعي امتلاك الحق كاملاً غير منقوص، وهو على هذا الأساس يبيح لنفسه اللجوء إلى كل وسيلة تمكنه من إحقاق حقه، بما في ذلك العنف. لكن وجود ثقافة لا عنفية في بنية تفكير وسلوك المجتمعات سيجعلها ترى ما لها وما عليها بالدرجة الأولى، وحين تضطر إلى خوض “حرب” لا عنفية كالاعتصام أو المقاطعة..، يكون ذلك على أساس أقل الخسائر وأكبر المكاسب.
من ناحية ثانية، فإن سيادة ثقافة اللاعنف في تفكير المجتمعات، تجعل اللجوء إلى العنف في حال الاضطرار إليه، هو الاستثناء وليس القاعدة، وينتهي بانتهاء الظرف الذي استدعى القيام به (ردّ العدوان مثلاً)، أما أن يصير العنف لغة وحيدة نتفاهم من خلالها على المستوى الفردي والجمعي، فهذه نواة اضطراب دائم لا يدع مجالاً لأي بناء أو تطور أو سلام، وهذه برأيي إحدى أعتى مشاكل مجتمعاتنا العربية، والتي صنعتها ورسختها أنظمة حكم عنفية، وأوصياء خارجيون يريدون فرض ثقافتهم وما يرونه مناسباً على الآخرين بالقوة.
أخيراً.. يرى الكاتب ألبير كامو أن “الدفاع عن الحقيقة بواسطة العنف، هو البدء بإنكارها”، هذه المفارقة الباعثة على الدهشة تجد مصدقاتها في العنف الذي عرفته المجتمعات العربية، والذي أضاع الحقيقة ولم يجلب إلا مزيداً من الهدم والخراب. وهذا تحديداً ما يحتم ضرورة بدء طريق بديل أكثر نجاعة، يستلزم بناء إنسان متشبع بالرغبة بالسلام والقدرة على اعتناق “اللاعنف” عقيدة يؤمن بها، فتستوطن فكره وتحكم سلوكه، وترفع يده عن “السلاح” نحو البناء واللحاق بما فاته من حضارة لن يعرفها إلا بالسلام.