حسن اسميك
يكشف لنا واقع الجدل الشعبي العربي حول مسألة الدولة وشكل الحكم الأمثل، أو الحكم الرشيد حسب المفهوم الذي تناولته الأدبيات الفكرية والإصلاحية منذ مطلع القرن الماضي، عن وجود تيارين اثنين شديدي التباين والاختلاف، الأول يستلهم مفردات الحداثة والمعاصرة فيؤكد أهمية نقاش هذه المسألة في إطار مفهوم الدولة الحديثة والأفكار التي ترتبط به، كالمواطنة والديمقراطية والحرية الفردية والقيم الليبرالية وحقوق الإنسان.
أما الثاني فيمكن وصفه بالتقليدي مجازًا، خاصة وأنه يتبنى ويدعم الدعوة الصريحة لنموذج الحكم والسياسة الذي ساد الدول الإسلامية المتعاقبة، وحتى دويلاتها، خلال الثلاثة عشر قرن الماضية، رافضًا بذلك مفهوم الدولة الحديثة شكلًا، وجميع الأفكار الأخرى المرتبطة بها مضمونًا.
غير أن هذا الجدل الشعبي بين التيارين ليس شعبيًا بالمطلق، إذ يمكن رد هذين الاتجاهين المتناقضين إلى خطاب النخب العربية المثقفة التي اشتغلت، وما زالت تشتغل، على التنظير الفكري المدافع عن كل تيار. حتى لقد بات التفريق بينهما بديهيًا تحت مسميين اثنين: اتجاه الإسلام السياسي والاتجاه العلماني، مع الأخذ بالاعتبار ما يسببه مصطلح العلمانية من لغط في الوعي العربي العام، والذي يدفع كثيرين لتفضيل مصطلح “المدني” أو “المدنية”، بحيث تعني “الدولة المدنية” شكل الحكم الأمثل مقابل مفهوم “الدولة الدينية”.
بالمقابل، يحاول أيضًا تيار الإسلام السياسي إنكار علاقته بـ “الدولة الدينية”، بينما يؤكد خصومه أن إنكار التسمية في الظاهر لا ينفي أبدًا المضمون الديني لمفهوم الدولة لدى أنصار الإسلام السياسي.
لا يتسع المقام هنا للخوض في القضايا والإشكالات المعلّقة بين هذين الطرفين، خاصة وأنها كثيرة وكبيرة
وذات شجون، بل يكفي التفكير في السؤال عن السبب الذي يجعل فريقًا شعبيًا واسعًا يؤيد الموقف الرافض للحداثة في واحدة من أهم القضايا التي لم ينقطع الفكر العربي عن الانشغال بها، خاصة وأن هذا الرفض يكشف عن موقف مضاد لجوهر التقدم التاريخي الذي يُبنى على ضرورة عدم التشبث بالماضي والتعصب له، بل وأهمية الموقف النقدي من هذا الماضي لضمان حاضر أفضل.
يعكس التفكير في السؤال السابق ما أعتقد أنه المشكلة الرئيسة التي يتمحور حولها الفكر العربي المعاصر، وهي ليست مشكلة فكرية فحسب، بل وعملية أيضًا توضح جانبًا من التأخر الحضاري الذي يعاني منه العرب مقارنة بغيرهم من المجتمعات.
وتتمحور هذه المشكلة برأيي حول موقفنا الذي ما زال مُعلّقًا من التراث، والذي يتسبب بتعليقه غياب التحديد المفاهيمي والواضح له، ما أدى في أحيان كثيرة إلى الخلط بينه وبين الدين، أي بين النسبي والمتغير وبين المطلق والثابت.
الأمر الذي جعل الكثيرين يتعاملون مع قضية (الحكم والسياسة) باعتبارها أصلًا ثابتًا في الدين لا يجوز التفكير فيه ولا تغييره، ولتنتفي عنها في الوقت ذاته سمتها التاريخية التي تجعلها قابلة للتبدل مع تقدم الإنسان وتطور وعيه وتفكيره.
ولقد مثّلت “الخلافة” -باعتبارها عصب بنية الحكم في التراث- الركن الأساسي المضمر، أو المعلن أحيانًا، لدى أغلب الحركات الإسلامية، لكونها مثّلت المفهوم الوسيط بين الدين والسلطة القائمة على أساسه، وما يزال كثيرون ينظرون إليها كأصل ديني لا يجوز استبداله بأي شكل آخر للسلطة والحكم.
ولقد عملت الحركات الإسلامية، وما زالت، على تقديم مسألة “الخلافة” كحلّ سحري للمشاكل التي يعاني منها المسلمون في دول تدّعي الحداثة والديمقراطية والعدالة، لكنها لم تقدم من هذه المفردات سوى الشعارات، الأمر الذي أتاح لتلك الحركات فرصة استغلال هذه الفجوة التي عمقتها أنظمة الحكم الاستبدادي في بعض الدول، فادّعت وهم إنقاذ الشعوب عبر دولة “الخلافة الإسلامية” التي ستعيد أمجاد المسلمين الغابرة وتصلح دينهم ودنياهم حسب زعمها.
ويبدو أن هذه الحركات تعتمد في دعايتها هذه على مجموعة من أنماط التفكير التي تنتشر في الحالات التي تواجه فيها المجتمعات واقعًا صعبًا، كالتفكير الانتقائي والقطبي والعاطفي الذي يفسر الأمور وفقًا لما يرغبه الفرد، وهذا ما يظهر من خلال تصوير الماضي “المجيد” كنموذج مثالي ومزدهر بالمطلق، الأمر الذي يزرع في عقول الناس إمكانية استعادة هذا “الازدهار” إذا ما عاد الخليفة و”امتشق سيفه” في وجه العلمانية والديمقراطية السيئة الصيت في بلاد المسلمين.
وفي الحقيقة، لم تسلم هذه الدعاية من الاستغلال بغية تحقيق مصالح شخصية وسياسية لمروجيها على حساب رغبة الشعوب في العيش بسلام وأمان، رغم ما فيها من انفصال عن الواقع لن يجلب سوى المزيد من الخراب والحرب والتخلف للشعوب المتعبة.
مناسبة هذا الكلام ما حدث في الأيام القليلة الماضية، منذ أن بدأت الولايات المتحدة انسحابها المفاجئ – رغم معرفة الجميع به– من أفغانستان، واستطاعت حركة طالبان “الجهادية” السيطرة على العاصمة الأفغانية، لتبدأ مشروعها في إعلان إمارة إسلامية على أسس دينية خالصة، رافضة بالمطلق جميع أشكال الحكم المدني باعتبارها تخالف أصول الدين وأحكامه الثابتة. فأعاد انتصار طالبان هذا في أفغانستان (وليس على أمريكا) الجدل الواسع حول مسألة الحكم الإسلامي ونظام الخلافة، وكشف الشعبية التي ما تزال تتمتع بها لدى شرائح واسعة تعتقد أن الازدهار والحضارة يمكن ان يتحققا بالوقوف ضد الحضارة ذاتها، وأن التقدم التاريخي يحدث ضمن حركة تعاكس التاريخ نفسه، وأن الاستدارة نحو الماضي أولى وأجدى من الانطلاق نحو المستقبل.
أخيرًا.. رغم وجوب أن ترتبط السياسة، والعمل السياسي تحديدًا، بالحاضر دومًا.
وبالتعامل مع الظروف والعوامل التي تشكل هذا الحاضر، وبالشروط المعاصرة للمجتمع، ما زال الوعي السياسي العربي مرتبطًا بما هو غير مجدي من التراث، وعاجزًا عن تجاوز هذه العقبة الرئيسية التي تحول دون قدرة العقل السياسي العربي على تمثل الحداثة وأدواتها في وضع مفهوم معاصر للدولة، يفصل بينها وبين الدين، ويعطي لكل منهما حقه.