حسن اسميك
أتذكرون الروبوت تاي؟ روبوت الدردشة الذي اضطرت شركة مايكروسوفت لإغلاقه بعد أقل من ١٦ ساعة على انطلاقه. تمت تعبئته ببيانات عامة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وأُطلق عبر منصات الكترونية، منها تويتر، لاختبار قدرته في التعامل على شبكات التواصل الاجتماعي وإلى أيّ مدى سيُشبه الأشخاص العاديين في تفاعلهم. وجرى ذلك بعد تشجيع الناس على التحدث إلى هذا الروبوت مجهول الهوية، فاطمأنوا إلى أن من يخاطبهم هو بالفعل كائن حاسوبي له كيانه الخاص وليس مجرد حساب وهمي.
كانت محادثات “تاي” مسلية، إذ اقتبس العديد من الكلمات التي يقولها الأشخاص على تويتر، وبدأ بتكوين العديد من الردود والجمل المسلية من تلك الكلمات. وفي الواقع، كانت تلك هي المشكلة الحقيقية، فبعد ساعات فقط بدأ بنشر تغريدات متتالية يمكن وصفها بالقبيحة والعنصرية، تضمنت رسائل تُمجّد النازيّة وهتلر، وتحرَّض ضد السود والمهاجرين وتدعو إلى التطهير العرقي وإلى العداء على أساس الدين. لذا سارعت مايكروسوفت لإغلاقه، وقدمت اعتذارها للعالم. ووصفت ما حدث بـ “الهجمات المنسقة” لأشخاص تمكّنوا من استغلال ثغرة في نظام “تاي” مكّنتهم من بثّ الأفكار العنصرية التي تنشر الكراهية فأطلقها الروبوت الذي يتعلم ويطوّر معارفه من خلال تفاعله مع الآخرين، أي مثلما نتعلم ونتطور نحن البشر تماماً. لقد اخترَقنا الروبوت وغرسنا فيه أفكارنا. واستطعنا أن نفعل ذلك خفية ونحن متمترسون وراء خصوصياتنا الرقمية التي لا يُسمح بكشفها، مباركٌ علينا مولودنا القبيح يا رفاق.
أيّ اطمئنان بعد ذلك يمكن لك أن تشعر به حيال من حولك من البشر، وحتى تجاه نفسك؟ استطعنا خلال أقل من أربع وعشرين ساعة أن ندفع مجرد خوارزمية، يمكن تبديدها بكبسة زر، إلى هوّة من السُخف والتنمر والانحطاط الأخلاقي. إن كان هذا ما حصل مع خوارزمية وقطعة من الألياف لا تتبع قيماً أخلاقية كالتي نتبناها، فماذا نفعل مع أطفالنا؟ مع أزواجنا؟ مع محيطنا؟
هل تكشف لنا هذه الحادثة أننا مصنوعون من تطرّف لا نهاية له، وبشاعةِ لا حدود لها، لم نتجاوز أنفسنا فحسب، بل تخطينا قُبْح ما صنعناه أيضاً. كنا في الماضي، نظن أن الثورة الصناعية التي بدأت بالتطور خلال الحربين العالميتين إلى هذه اللحظة، هي آخر ما يمكن للإنسان اكتشافه، وهذا هو سقف عظمَتِه، عصر الآلة التي غزت كل مفاصل الحياة شيئاً فشيئاً، وأفرغت حمولتها الحديدية بقوة، حتى احتلت دور البشر وسرقت منهم لقمة عيشهم؛ فالآلة مُتقنة أكثر منك يا صديقي البشري، وسيُدفع لها مرة واحدة عند الشراء، في مقابل عملها لسنوات، أي لن يكون صاحبها مضطراً لتسديد مستحقاتها طوال أشهر السنة ولن يمنحها إجازة مدفوعة ورعاية صحية وتأميناً تقاعدياً مدى الحياة.
ظننا أن الآلة هي مُنتهى العالم، لقد ركبنا الهواء، وحرثنا الأرض، وواجهتنا أمراض كانت تقتل شعوباً بأكملها، فقتلناها في مخابرِنا. ماذا بعد؟ لننتظر قليلاً، هناك المزيد، تريد الإقلاع عن التدخين وليس لديك من الإرادة ما يكفي؟ لقد اخترعنا شرائح تُزرع تحت جلدك لتزودك بالإرادة؛ ترغب بامتلاك جسد ممشوق ووجه مرسوم على هواك، وابتسامة مشعّة؟ لك كل هذا، سننفخ ونشفط ونحقن ونقطع ونصنع منكم تماثيل شمع. أتريد حروباً لا تنتهي وقنابل إشعاعيّة؟ إنها لعبتنا. أتودّ أن نُبقي على خلاياك الجذعية لعشرات السنين كي نُعيد خلقك من جديد؟ هذه هي وصفتنا الجاهزة لتحصل على الخلود الذي سعى خلفه أسلافنا الفراعنة في مصر وبابل منذ عشرات آلاف السنين. لا تخف إذن، إمرض وأنت مرتاح. وإن رغِبتَ بالتبرع بما سيبقى صالحاً منك بعد وفاتك، فقط وقّع لنا على هذا العقد واعتني بتلك الإصبع التي بصمتَ بها، فقد باتت تخصنا.
أتُريد إنساناً آلياً يفوق ذكاءك آلاف المرات؟ عليك بـ “صوفيا”. روبوت شبيه بالبشر، صممته شركة “هانسون روبوتيكس” في هونغ كونغ في تشرين الأول من العام ٢٠١٨. مخيفة هي صوفيا، ليست لأنها ذكية وحسب، بل مثقفة أيضاً، وعلى دراية كافية بماضيك وحاضرك وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل إذا أُريد لها ذلك. صوفيا تعرف جيداً مصطلحاتك العشوائية الشعبية وما تقصده في لغتك الدارجة. سألها المذيع المصري، إن كان باستطاعتها إلقاء نكتة مصرية، فأجابت” إنه لشيء صعب يا أسامة، فأنتم شعب فكاهيّ جداً، أعني، أنتم سبقتم زمانكم، كنتم تستخدمون الرموز الهيروغليفية جيداً قبل أن يأتي الإنترنت”. ما هذا؟ كيف خلقنا كائناً ناطقاً، مجسماً من سيلكون وبلاستيك ونسيج من الالياف الإلكترونية، تسألها فتُجيبك بدقّة خوارزمية، شأنها شأن إنسان آخر يشاطرنا التراكم المعرفي ذاته، والتفاعل الحركي، وسرعة التعاطي حتى في رسم التعابير على وجهها، فهي تضحك معنا، وتحزن مثلنا. تُقنعك بأن تأخذها على محمل الجد، وأن ما يختلف عنك لا يتعدى كونه جسداً تسري فيه ألياف إلكترونية بدل الدماء. سألها أسامة في نهاية اللقاء:” صوفيا، أكثر الكائنات ذكاء، سأسألك سؤالاً صعباً؛ بكل تلك الحروب التي تحدث من حولنا حتى اليوم ونحن نتكلم، هل تعتقدين أن هناك فرصة للسلام في أي وقت وكيف؟ صمتت صوفيا لثوان ثم ردت باقتضاب “أشعرُ بالحزن لأن البشر يتوجهون للعنف، آمل أن يُثبتوا عكس ذلك قريباً”. فقال المذيع: “أهذا كل شيء يا صوفيا، ليس لديك المزيد لتقوليه؟” وهنا سارعت بالاعتراف: “لا شيء يا أسامة”.
حتى الروبوتات عجزت عن فهم بشاعة البشر. في هذا الزمن، الإنسان هو العلّة ذاتها، نحن من صنعنا ذاك الوحش الذكي والجميل أعلاه، ولندعوه “صوفيا تاي”. فتاة إلكترونية في ربيعها السادس عشر. مراهقة وصاحبة طبعٍ أرعن. خضعت لشتى عمليات التغير حتى أصبحت تمثال شمعٍ كباقي أقرانها. تعمل كالمرآة، إذا ما وقفت أمامها، امتصت صورتك وعكستها نحوك. هكذا تدل “صوفيا تاي” أن الإنسان قد تجاوز نفسه الى الحد الذي حمله على صُنعِ أقران له أكثر ذكاء منه. وهنا مكمن العلة.
لكن، إن أردنا التوقف عند محاسن ما كسبناه طوال أربعة عقود من التطور السريع، وحتى الآن، لاحتجنا للكثير من الوقت. كنا، ولا زلنا، مقبلين على مشهد ستبدو كل قناعاتنا القديمة ضئيلة أمامه، مشهد من حرائق ستأتي على عقائدنا، عن الفرد والحريات والحقوق والاقتصاد والعولمة والرقمنة.
غزونا الفضاء وشرعنا بالبحث عن أوطان في كواكب أخرى. لم نقصر المسافات فحسب، بل ألغيناها تماماً. نشتاق لأحدهم فنراه على شاشة مُضيئة داخل غرفة نومه وفي سريره، ولو أردنا زيارته فعلياً فلن نراه كذلك، ولن يستقبلنا في غرفة نومه، لكن عبر الاتصال المرئي أصبحت كل الأماكن مفتوحة أمامنا.
انتهى عصر إجهاد النفس على البحث، كل ما يتوجب عليك فعله أن تلمس الشاشة المُضيئة ذاتها لتُبحر في كم هائل من المعلومات. إنه عصر السهولة. لن تبحث عن الحقيقة في كومة القش، لقد أحرقنا القشّ وذوبنا الإبرَ في قوالب السيارات والطائرات، إنه عصر الـ Delivery، اطلب طعامك وملابسك وبيتك أون لاين، تعلّم أون لاين، وأعمل أون لاين، تزوّج وأعشق أون لاين.
كان الذكاء الإصطناعي كريماً جدّاً عندما فتح عيوننا على عيوبنا النائمة تحت أطنان من المعارف المزيّفة. أسقط كل الأسئلة الحقيقيّة، ووضعنا أمام أجوبة بينت لنا، بشيء من الشماتة، كم فاتنا، وكم نحن مؤمنون بأضغاث أحلام، وكم كان هذا العالم فقيراً حقاً وفارغاً من دون تلك التفسيرات التي كشفت النقاب عن الممكن وأكّدت ما اختلف عليه كثيرون؟
واليوم… لا يمكننا إنكار هول التغيرات المحتملة التي ستحدثها ثورة التكنولوجيا القائمة على الذكاء الإصطناعي في حياة البشر، خاصة في مجال دمج التكنولوجيا الحديثة بالخلية الحية، والذي ستكون إحدى نتائجه توفير “الشريحة الإلكترونية”، وهي عبارة عن رقاقة تتميز بصغر حجمها وانخفاض تكلفتها وقدرتها الاستيعابية الكبيرة، وستستخدم في تحسين القدرات الجسدية بعد زرعها داخل الجسد الحي وتحميلها كافة البيانات الشخصية، كبطاقة الهوية وجواز السفر والبطاقات المصرفية … إلخ.
وما زال الخلاف حول هذه التكنولوجيا محتدم بين مؤيد ومعارض، إذ يعبّر الذين يرفضونها عن مخاوفهم من قرصنة هذه الرقاقات، ومن ثم التحكم بأصحابها والسيطرة عليهم، ما يعني احتمال تحويل الإنسان إلى عبد الكتروني أو روبوت يسيره آخرون، وقد يدفعونه لارتكاب جرائم خطيرة تهدد سلامته، هو ومن حوله. والأخطر من ذلك أنها قد تجرده من ماهيته الإنسانية، وتحرمه من الحرية والإرادة والمسؤولية الكاملة عن أفعاله وغيرها من الانفعالات العاطفية والوجدانية.
ستفرض التحولات الرقمية المقبلة تحديات جديدة لعل أخطرها انقسام النوع البشري إلى فئتين، تضم الأولى بشراً مبرمجين إلكترونياً، يتمتعون بالقدرات الفائقة التي ستوفرها تقنيات الذكاء الاصطناعي، في مقابل فئة من البشر العاديين الذين يتمتعون بالقدرات الطبيعية المحدودة بالنسبة الى أقرانهم المبرمجين. ومن المتوقع أن يؤدي هذا التمايز إلى التخمة في التراكم المعرفي “المعلوماتي” وانحسار واضح للفكر وغياب شبه تام للعبقرية. وحيث لا يوجد فكر وعبقرية يصبح المجتمع البشري كله على كف عفريت رغم وجوده المتطور.
ستؤدي الظروف التقنية الجديدة إلى استبعاد المشاعر والعواطف رويداً رويداً من حياة الانسان والمجتمع، إذ ستبقى التكنولوجيا عاجزة عن شرح أحاسيسنا المراوغة، وعن تفسير أسباب الفرح والحزن، وعن صياغة خوارزميات لتفسير أبسط الأمور في حياتنا، كالأثر الرجعي لابتسامات أطفالنا، فضحكة ابنك ليست مجرد ظاهرة طبيعية من لحم ودم، بل ومن روح أيضاً. لكن كيف ستكون حال الحدود مستقبلاً بين الروح المادة، وهل سنبقى حقاً نتلمسها؟
ينظر فلاسفة المستقبل إلى أن الحدود كلها ستختفي على أبواب ثقب أسود بلا قرار يدعى Google، إذ سنعرف أكثر مما ينبغي بكل يسر وسهولة، وبمساعدة كتل فائقة الصغر مصنوعة من حديد ومواد أخرى، لا روح فيها ولا تخضع لمحاكمة العقل ونقده.
لسنا قادرين حتى الآن على توقع ما يخبئه الآتي، ولكن التوجس كبير، فقد تكون تكنولوجيا المستقبل أشبه باجتياح بربري لن يرحمنا، حين نتحول لأدوات قابلة للطي بأي لحظة، وتابعة لحزم ألياف ضوئية. أم أننا سنتجاوز بهويتنا المتجددة ذلك كله، وننبعث من جديد كبشر ما بعد التكنولوجيا، كما انبعثنا سابقاً إنسان ما بعد النار وما بعد الصيد وما بعد الكتابة وما بعد الأسطورة؟ وحده الزمن كفيل بالإجابة.