الخوف من التغيير… مشكلة عالمية تستفحل عربياً

الخوف من التغيير… مشكلة عالمية تستفحل عربياً

مقال السيد حسن على موقع النهار:

“أين ترى نفسك بعد عدة سنوات؟”

سؤال قد يهزُّ النفس البشرية في أعماقها، لا لأنه يرتبط بالخوف من عدم تحقُّق الأحلام والخطط المتخيلة فحسب، بل لأنه في أساسه يتعلق بشيء يثير قلق الجميع مهما كانت ثقافتهم، بلدانهم، وأديانهم، وهو: “التغيير”.

لم أكن هناك بطبيعة الحال، لكنني أكاد أجزم أن ولادة التقنية منذ فجر تاريخ البشرية بصورها الأبسط (استخدام الأدوات الحجرية وما شابه) قد رافقها خوفٌ من التغيير الذي ستُحدثه في طريقة حياة ومصير الإنسان، فالتغيير لم يكن يوماً أمراً مستساغاً بالنسبة لمعظم الناس، لا على المستوى الفردي ولا الجماعي أيضاً، وسنلاحظ ذلك في كل تطور شهدته الإنسانية، من الثورة الصناعية إلى الذكاء الاصطناعي وغيره.

لا يقتصر الخوف من التغيير على الجانب التكنولوجي، بل يرتبط بالأحوال المادية والعاطفية على المستوى الفردي، والدينية والمجتمعية والسياسية على مستوى أشمل وأعقد، وفي كثير من الأحيان، قد يجعل ذلك الخوف الإنسان يتردد مدة طويلة قبل أن يقوم بالخطوة الأولى، حتى لو كان التغيير -وبشكل بديهي- ضرورياً للغاية، فكم مرّت أيام طويلة مُضنية ومُهينة على روزا باركس، قبل أن تقوم بتغيير واحد وهو قول كلمة “لا” عندما طُلب منها التخلي عن مقعدها في الحافلة لراكب أبيض، كما كانت تفرض قوانين الفصل العنصري في ولاية ألاباما الأمريكية. نعم، عانت باركس لمدة بعدها، إذ اعتُقلت وفقدت وظيفتها، لكن تلك الكلمة كانت البداية لرحلة إلغاء قوانين الفصل العنصري، وصارت تلك الفتاة الجنوبية رمزاً حقيقاً، يعرفها العالم كله اليوم بـ “السيدة الأولى للحقوق المدنية”.

يرتبط الخوف من التغيير بالاعتقاد الراسخ بأنه لا بدّ أن يحمل معه التحديات والصعوبات والآلام، مثلما فعل مع روزا باركس، وتوحي وجهة نظر التنمية البشرية في التغيير، والتي تبدأ بـ (نحتاج إلى، يجب أن، علينا…) بأنه عبارة عن رحلة شاقة تحتاج مجهوداً عظيماً. لكن، هل هو كذلك بالضرورة؟

يُقدم الناس على تغيير سياراتهم وأجهزتهم وأثاث منزلهم بشكل مستمر، لكنهم يقاومون وبشدة تغيير ولو القليل من أفكارهم، حتى لو كان ذلك التغيير ضرورياً وسهلاً في آنٍ معاً.. إذن، عندما يتعلق الأمر بالتغيير، ليست الصعوبة أو السهولة هي المشكلة، وإنما العائق الأكبر هو الخوف، وسيوافقني هذا الرأي كثير من أصحاب التجارب الملهمة التي تبدو صعبة للغاية بالنسبة لمعظم الناس. فعندما حَكَمَ رجل مشلول، هو فرانكلين روزفلت، الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933، لم يبدُ أن شلله وقف عائقاً في طريق اعتناقه تغييراً غير عادي في حياته، والتأثير على حياة كثير من الناس من خلال حكم بلد هو الأقوى في العالم، ففي خطاب تنصيبه، ذكر جملةً خلّدها التاريخ تقول: “إن الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه”!

ستكثر الأمثلة ويزدحم المقال إذا ما تتبّعنا جميع القصص الملهمة التي توثّق هذه الفكرة وتثبتها. والخلاصة هي أن التعامل مع أي تغيير على أنه صعب وشاق هو أمر مُبالَغ فيه، بل قد يخفي وراءه شيئاً من الاتكالية والتسويف والكسل، إلى جانب الخوف والقلق الذي نحتاج -كما فعل روزفلت وروزا وغيرهما- إلى إيجاد طريقة للتخلص منه، أو أقله للتعامل معه.

مرور سريع على علم النفس

بحث علم النفس في أسباب مقاومة التغيير، وكان أبرز ما توصل إليه أن أحد أكثر الأسباب شيوعاً أو تداولاً بين الناس هو مفهوم منطقة الراحة والخوف من الخروج منها، ومن المفارقة أن الأغلبية من الناس تفضّل البقاء غارقة في البؤس بدلاً من التوجه نحو المجهول، عملاً بالمثل الإنجليزي القائل: “شيطانٌ تعرفه خير من شيطان لا تعرفه”!

والتغيير كذلك، هو خروج من الماضي الذي اعتدنا عليه، في المكان أو العمل أو السياسة أو التكنولوجيا، ومن المرجح أن يتخذ الأشخاص المرتبطون بالقديم، حتى لو كان بالياً وغير صالح وضاراً أيضاً، موقفاً دفاعياً رافضاً للتغيير، خوفاً من الفشل أو من عدم القدرة على مواكبة التغيير، أو ربما تمسكاً بالماضي نتيجة معتقدٍ ما ليس أكثر.

من ناحية أخرى، عندما تُطرح فكرة التغيير الفكري أو السياسي والاجتماعي، فإن العديد من الناس قد لا يفهمون دورهم أو علاقتهم بالتغيير، ومجرد شعورهم بأنهم منفصلون عنه سيجعلهم يتبنّون موقفاً رافضاً له، بمعنى، قد يسأل هؤلاء أنفسهم “لماذا أتحمل نتائج هذا التغيير وهو لا يعنيني؟”.

يتصل هذا بنموذج ذهني صاغته الدكتورة كارول أوكونور منذ نحو 30 عاماً، يقارن مقاومة التغيير على مستويين: الرفض الواعي والرفض اللاواعي. أي أن هناك من يرفض التغيير وهو على فهم ودراية بما يعنيه، لكنه لا يوافق عليه. وعلى العكس، فالرفض اللاوعي هو أن يرفض الشخص التغيير دون فهم له.

وفي هذه الحالة الثانية، لا تقع المسؤولية على هؤلاء الأفراد وحدهم، ففهم التغيير خطوة أولى في الطريق نحوه، وعلى المثقفين والسياسيين والناشطين وأصحاب القرار والتأثير أن يؤدوا الدور الأكبر في توضيحه للناس، وفي تبيان أهميته وضرورته وفوائده، وفي تقليل الخوف الذي قد ينتاب الناس تجاهه. لكن، للأسف، تدخل هنا لعبة المصالح، وكثيراً ما يؤدي هؤلاء أدواراً عكسية -بخاصة إذا كان الوضع الراهن يخدم مصالحهم- فيعمدون إلى تخويف الناس أكثر من التغيير، ويوهمونهم أن بقاء الأمور على ما هي عليه هو أفضل الخيارات، وبخاصة في ظل سطوة وسائل التواصل الاجتماعي وما تنشره من محتوى جاهل أو تجهيلي، عبر “مؤثرين” يفتقرون إلى الحد الأدنى من التأهيل أو القدرة أو حتى الخبرة؛ ظاهرة تحدثت عنها مسبقاً وعن تفشيها الغريب وغير المسبوق في منطقتنا العربية، ما يدفع هنا إلى تناول علاقة العرب تحديداً بالتغيير على المستوى الجمعي.

الإشكالية العربية: التغيير والدين والهوية

يمكن لكل ما ذُكر سابقاً أن ينطبق على مختلف الشعوب حول العالم، لكن من الواضح أن للعرب حالتهم الخاصة، إذ يرون -في كثير من الأحيان- أن كل تغيير هو تهديد مباشر لدينهم وهويتهم، حتى إن بعضهم يرى فيه -ودون مبالغة- مؤامرة تُحاك للقضاء على الإسلام!

لا أُنكر أن الأفراد في الغرب قد يتعاملون مع التغيير على أنه تهديد لهويتهم وكينونتهم ودورهم في الحياة، وقد حدث أن شعر الكثير من العمّال بهذا التهديد عند قدوم الثورة الصناعية مثلاً، فرفض بعضهم التغيير والتأقلم مع تلك الثورة، وبقي غارقاً في دور الضحية، متمسكاً بأن عمله اليدوي هو الشيء الوحيد الذي يحدد من هو في الحياة، بدل أن يسعى لتعلُّم كيفية التعامل مع الآلات، وهو الأمر الذي فُرض عليه في ما بعد ولم يُعد خياراً.

بطبيعة الحال، لا يمكن لشيء واحد أو انتماء واحد أن يحدد هوية الإنسان، فالجميع دون استثناء يمتلك هوية مركبة من قناعات وأفكار ومعتقدات وانتماءات مختلفة ومتنوعة تتصارع في ما بينها، وهي تتجدد وتتغير باستمرار طالما أن العقل لا يخشى التفكير. وهنا تبدو الحالة أكثر تشعّباً في بلادنا، فإذا كان الغربي يرى في التغيير تهديداً لكينونته كفرد، فالمسلم يراه تهديداً مباشراً لدينه، ودائماً ما يجد طريقةً لربط ذلك التغيير -مهما كان نوعه (مجتمعي، سياسي، تكنولوجي، تعليمي…) بالإسلام، وهنا تكمن المعضلة.

يرتبط الأمر بأزمة الهوية العربية اليوم، حيث غلب الطابع الديني عليها حتى كاد يلغي أي محددات أخرى، وبات كثيرون يهاجمون أي تغيير وتطوير بحجة أنه “مُعادٍ للإسلام”، فإذا كان التغيير متعلقاً بالمرأة وعملها وسفرها، أو بالتكنولوجيا كتطوير روبوتات ذكية أو حتى إذا كان من باب الانفتاح أكثر على الآخر، والاستفادة من خبرات الآخرين في التطوير والتحديث، سيقال إنه يدمّر الأصالة ويزعزع أركانها! وكذلك الأمر في السياسة والاقتصاد، وحتى في الطب وغيره.

والحقيقة التي لا شك فيها أن الإسلام لم يكن يوماً دين انغلاق لا على الغير ولا على التغيير، بل على العكس، دائماً ما انفتح على التعلُّم والاستفادة من الثقافات المختلفة، ومختلف أنواع الأفكار والتقنيات والكتب واللغات، كل ذلك تقبّله الإسلام في عصره الذهبي، لماذا إذن يختلف الأمر في العصر الحديث؟

نحن اليوم نمتزج -شئنا أم أبينا- مع شعوب وثقافات أخرى، سواء من خلال الإنترنت أو من خلال المستورد من تلك البلدان من لغات وعادات ومنتجات، وحتى سياسات وغيرها، ولهذا، نشعر أن هويتنا مهددة دائماً، ولا نمتلك ديناميات حقيقية للفصل أو الدفاع عن هويتنا وتقبّل التغيير الضروري في بعض الأماكن. وضمن هذا السياق، يقول أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة: “ألا يتسم عصرنا بأنه قد جعل من البشر أجمعين مهاجرين من الأقليات نوعاً ما؟ إننا جميعاً مرغمون على العيش في عالم لا يشبه قط موطننا الأصلي، وعلى تعلُّم لغات وأساليب تعبيرية ورموز أخرى، ويتكون لدينا جميعاً الانطباع بأن هويتنا، كما نتخيلها منذ طفولتنا، مهددة”.

لكن، هل هذا التمازج يجعل هويتنا مهددة بالفعل وبالضرورة؟ هنا تبدو فكرة الهوية المتعددة بل والمتجددة أيضاً أكثر أهمية، لأن الإنسان عند تقبّله أن هويته مركبة، وفي الوقت نفسه ليست ثابتة بل هي، كما كل شيء، تتغير باستمرار، ستكون لديه على الأقل القدرة على المحاكمة، وقبول ما يناسبه ورفض غير المناسب بدلاً من رفض كل شيء.

إن كنا نجد في كل تغيير تعارضاً مع الإسلام، فهذا يعني أنه ينبغي التفكير بموقف الإسلام نفسه من التغيير، وهو ما يرتبط بفكرة أخرى مهمة يطرحها أمين معلوف في الكتاب نفسه حين يقول: “إننا غالباً ما نهوّل تأثير الأديان على شعوبها، ونهمل على العكس تأثير الشعوب على الأديان”، فبدل أن يحدد الخطاب الديني هويتنا بشكل ثابت، يجب ألا نهمل أننا أيضاً نحدد هذا الخطاب ونؤثر عليه، وأنه -مثلنا تماماً- قابل للتغيير والتجديد.

من نافل القول، إن مجتمعاً تحكمه العادات والتقاليد، كالمجتمع العربي، لن يتقبل التغيير بسهولة أبداً مهما كان نوعه، وقد قالها كورت لوين في أربعينيات القرن الماضي في عمله الرائد “حدود الديناميات الجماعية”، حيث لاحظ أن أي محاولة لتغيير مجموعة ما، هي في جوهرها محاولة لإلغاء عادة، ما يخلق حاجزاً بالضرورة. كذلك، وجد لوين أن الأفراد يميلون إلى اتباع القواعد المحددة من قبل المجموعات التي يرون أنفسهم ينتمون إليها، وهي ظاهرة يطلق عليها عالم النفس الاجتماعي الدكتور روبرت سيالديني في كتابه “التأثير” اسم “الدليل الاجتماعي”. وعندما يدافع الناس عن العادات والموروثات من التقاليد، يكون دفاعهم في معظم الأحيان بشكل أعمى ودون تفكير، وقد يكون عدائياً وعنيفاً، ضدَّ من كل من “يتخيلون” أنه عدو.

نقاوم التغيير ونطالب بنتائجه!

لو نظرت مِن حولك، ستلاحظ أن غالبية الناس تتمنى وتُطالب بالتغيير على الدوام، سواء في أحوالها المادية أو النفسية أو المجتمعية وغيرها، وحتى بعيداً عن المستوى الشخصي، فهي تطالب بتغيّر الناس من حولها، ولا يكفّ كثيرون عن التذمّر وإلقاء اللوم في سوء أوضاعهم أو أوضاع البلاد والمجتمع على كل شخص وكل شيء ما عدا أنفسهم!

وفقاً لسقراط، فإن “السر في التغيير ليس أن تحارب ما هو قديم، بل أن تبني الجديد”. على المستوى العربي مثلاً، لا يخفى على أحد أن شعوبنا بارعة في التذمر من الأوضاع القائمة، لكن هذه البراعة لا تنعكس أفعالاً إلا في ما ندر، فهم يريدون دولاً قوية عادلة مؤثرة متطورة، لكن على الآخرين أن يصنعوها لهم، يريدون ليوتوبيا ضائعة أن تجد نفسها بنفسها، لكن كيف وبأي طريقة؟ لا أحد يدري حقاً، ربما من خلال مواقع التواصل الاجتماعي!

يرتبط ذلك بحال الاغتراب الذي يعيشه المواطن العربي اليوم، إذ ينظر إلى نفسه وكأنه كائن منفصل عن واقع بلاده، فالسياسة لا تعنيه ولا القانون أو الاقتصاد وغيره، فهو يريد أن يحصل على ما يريد فحسب، ناسياً أنه الجزء الأهم في عملية التغيير، وأن التغيير يبدأ من الفرد نفسه ويصبح مُعدياً مع الوقت، ليس فقط كما قال غاندي: “كُن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم”، بل كما جاء في قرآننا الحكيم من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11].

ختاماً..

في مقابل من يخاف التغيير، هناك من يعتقد بأن كل عادة وكل أسلوب يحتاج “ثورة” لتغييره، وهذا تطرفٌ لا يختلف كثيراً عن تطرف مناهضي التغيير. فهناك ما يتغير بسهولة ويسر وبمجرد اتخاذ القرار، كما أن تغيير بعض الأمور لا يعني نسف جملة أفكارنا وعاداتنا ومعتقداتنا وأسلوب حياتنا من جذورها، لكن أضعف الإيمان أن تكون لدينا على الأقل القدرة على تقبُّل فكرة المحاكمة والتفكير فيما إذا كان التغيير لصالحنا أم لا، بدون انقياد تام أو رفض أعمى له.

إن قوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ لهو مسؤولية كبرى تقع على عاتق المسلمين في كل مكان، والحفاظ على هذه المكانة التي خصّنا بها الله يقتضي عملاً وجهداً وإعمال عقل وتفكيراً وتطويراً وانفتاحاً مستمرين.. كيلا نفرط بهذه الخيرية وبهذه المكانة. وعندما يحتاج واقعنا تغييراً، لا بد وأن نكون أدوات هذا التغيير، ولو بأبسط الخطوات وأصغرها، مع الوعي الكامل وتقبّل عدم ثبات الأشياء والأحوال على الدوام، رضينا بذلك أم لا. لذلك، من الأفضل أن نقود التغيير لما فيه خيرنا وخير بلادنا وأجيالنا اللاحقة، فثبات الحال من المحال، أو كما يقول الفيلسوف اليوناني هيراقليطس: “الثابت الوحيد في الحياة هو التغيير”.

مجلة حكايا
هذه المجلة تُصدر عن قسم الإعلام والوسائط المتعددة في مجلس قلقيلية