حسن اسميك
أكتب هذا المقال انتقاماً لصديقي، لكن مِن مَن؟ أو من ماذا بالضبط؟ لا أعرف، فصديقي لم يستطع إتمام دراسته الجامعية لأنه أراد أن يدرس هندسة العمارة المولع بها منذ صغره، لكنه لم يستطع ذلك لأن مجموع تحصيله في الثانوية كان أقل من درجة الدخول لكلية هندسة العمارة بفارق 0.03، نعم.. هذا الفارق الضئيل حرمه من تحقيق حلمه الذي ما زال يبكيه بعد مضيّ أكثر من عشرة أعوام، يوم لم يكن لديه الوفرة من المال لدخول جامعة خاصة، أما الآن فلم يعد لديه وفرة الوقت لاستكمال حلمه، بعد أن درس اختصاصا لا يحبه وتعثّر فيه لسنوات، ثم توجه لعمل خاص يديره بعيداً عن ما درس، وبعيداً أيضاً عن ما أحب أن يدرس. ولما حدثني عن سكنه الجديد الذي شرع في بنائه، وهو منزل العمر بالنسبة له، أوصيته أن يعتمد على مهندس معماري ليضع التصاميم الداخلية، فأجابني بخيبة أمل: (أخشى أني لا أحب المهندسين المعماريين).
وإذا ما استثنينا بعض الدول في الخليج العربي، التي وفرت لجامعاتها العامة والخاصة كافة مستلزمات البنى التحتية والفوقية، وأدخلت إليها أفضل وسائل التعليم، واحدث المناهج المعاصرة، فإن غالبية دول العالم العربي تعيش اليوم أسوأ حقبة زمنية على صعيد التعليم، وعلى الصعيد العلمي بالمحصلة، لكونه الأخطر على المجتمع فهو أداة التطور وبناء الحضارة، وعلى الرغم من محاولات بعض الدول العربية إنقاذ نفسها من الحضيض الذي وصلت إليه في مجال العلم والتعليم، فإن معظم هذه المحاولات هشة وغير مفيدة، غلب فيها تطوير شكل على حساب تطوير المضمون، ومازال شبابنا غارقاً في دوامة هذا الانفصال بين الواقع الاجتماعي والتعليم الاكاديمي، ينتظر الحلول التي ليست من صلاحياته التدخل بها رغم درايته الكاملة حولها.
يتجلّى التخلف العلمي الذي عانى منه الشباب العربي في عدّة مظاهر مثل فقر الوسائل التعليمية واعتماد التلقين الجامد للمناهج كما هي مطبوعة في الكتب تماماً، فلا وجود للمخابر التجريبية إلّا شكليّاً ولا وجود لمنهج مهاراتي تفاعلي إلا بالحد الأدنى وضمن مبادرات فردية لا ترقى حتى الآن لمستوى الاستراتيجية المكتملة العناصر، حتى أن انتقال التدريس للشكل التفاعلي لم يتجاوز استبدال السبّورة بجهاز الإسقاط الضوئي، وما زالت المخابر في أغلب الجامعات تحتوي تجهيزات قديمة أسست يوم أسست الجامعة نفسها، بالإضافة إلى الأعداد الهائلة للطلاب في الكليات العلمية مما يجعل من الصعب حصولهم على المعرفة التجريبية في المخابر بالنسبة لعدد التجهيزات القليل، فيكتفى غالباً كما نقل لي أحد مدرسي الجامعات في بلد عربي بأن يدخل الطلاب المخبر “ليتفرجوا” على المعدات التي فيه مع التأكيد على عدم السماح لهم بلمس أي شيء فيه، وليست الفروع النظرية بأفضل حال من أخواتها العملية، إذ لا تقل معاناتها من حيث عدد الطلاب الكبير وغياب منهج البحث العلمي الضروري للسماح للطالب بوضع يده على المعرفة دون أن يتلقنها شفاهة كما يتلقن قصص الأجداد والجدات، بالإضافة إلى غياب المعرفة التجريبية لدى المدرّس ذاته والذي بدوره كان قد درس نفس المناهج منذ عشر سنين على الأقل، ودخل ذات المخابر، وهنا تبرز لدينا المشكلة الأخرى وهي عدم تطوير المناهج وبقائها لسنين طويلة دون تعديل وكأن من يصنعونها يعيشون في عالم منفصل لا يتطور على مدار الساعة كعالمنا، وتبقى الكتب الجامعية بذات المحتوى ولو تغيّر الشكل من الطباعة السوداء إلى الطباعة الملوّنة، حتى أن جمود المناهج ذهب إلى أبعد من ذلك حيث بقيت المواد التدريسية نفسها بمعلوماتها القديمة المكدّسة، وعلى الطالب أن يدرسها كلّها رغم عدم وجود حاجة علمية له بها.
ولمّا كانت التجربة أم الاختراع، والبحث هو الطريق الأمثل للمعرفة، وكان من الضروري أن يحظى الباحث أو المجرب بفضاء من الحرية للتفكير والتحليل وبناء معرفته حجراً فوق حجر، ولما كان ضد الحرية هو الاستبداد، كان من الطبيعي أن يحل هذا الاستبداد محلها في حال غيابها عن واقع التعليم الأكاديمي في غالب بلدان العرب.
فما هو الاستبداد المعرفي بشكله الأكاديمي؟
تنطلق جذور الاستبداد المعرفي الأكاديمي من تحديد نوعية وكمية المعارف التي يتلقاها الدّارس وكيفية تلقيه لها من قبل المصدر ومن وجهة نظره هو دون النظر إلى حاجات المتلقي المتزايدة والمتغيرة مع تطور العلم في العالم، أو تلك الحاجات التي تحددها رغباته وإمكاناته وقدراته العقلية والنفسية، يحدث هذا كله مع عدم السماح له بالمشاركة في تطوير العملية التعليمية أو التعبير عن حاجاته وتطلعاته، مما يحوّل دور الطالب من دور بنائي لشخصيته العلمية إلى دور وظيفي سلبي مسبق التوجيه يقتصر على اجتيازه السنوات الجامعية من أجل الحصول على الشهادة التي ربما قد تخوله الحصول على فرصة عمل.
ومن الطريف أن فرص العمل تطلب الشهادات العلمية رغم معرفة أرباب العمل ورؤسائه بعدم جدوى التعليم الجامعي المحلي، لذلك فغالباً ما يخضع الخرّيج لدورات تخصصية في مجال عمله، أو تطلب جهات العمل منه وثيقة سنوات الخبرة العملية لعدم ثقتها بكفاءة حديثي التخرج.
وقد حدَّدت منظمة اليونسكو بتقرير لها عام 2013 مشكلةَ التعليم في الوطن العربي بما يلي: “عدمُ قدرةِ الطلاب على الاستفادة من المحتوى التعليمي المقدَّم لهم، ويتم تخريجهم وهم ليسوا على درايةٍ بما يجب أن يفعلوه بعد التخرُّج، وأن هناك قلة نسبية في استكمال التعليم في الدول العربية بسبب عدم وجود فرص عمل مناسبة للخريجين، وهناك أيضًا تكدُّس في المناهج التعليمية والاعتماد على التلقين المستمر، وإهمال جانب التطبيق العملي لتلك المناهج، هناك عامل خَطِر جدًّا وهو عدم الاهتمام بدور الكتب والمعامل العلمية والمكتبات، كما أن عددهم غيرُ كافٍ لكل الطلاب الموجودين في المدرسة، واستخدام العنف ضد الطلاب؛ مما أدًّى إلى ضعف انتمائهم و”عدم” حبهم لاستكمال العملية التعليمية، وأخيرًا عدم وجود الفرد المناسب في المكان المناسب داخل المنظومة التعليمية، يتمثَّل ذلك في أن رؤساء الإدارات التعليمية غير متخصصين أصلاً في المجال التعليمي”. فياللهول.
ولا يقل الوضع سوءاً اليوم عن عام 2013 تاريخ تقرير اليونيسكو إذ لم يشهد السواد الأعظم من المنطقة العربية أي تقدم على أي صعيد منذ ذلك العام حتى اليوم، إنما كان كل شيء يتراجع ولو بشكل متباين بين بلد وآخر.
في ظل تدني مستوى التعليم في العالم العربي أصبحت عبارة “التعليم من أجل الشهادة” مقولة الشباب الشهيرة، فرغم تطور الاتصالات الذي طرأ على البلاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلّا أن المؤسسات المعنية مازالت تحتفظ بتقاليدها بما يخص المناهج وأساليب التعليم المعتمدة منذ زمن يبدو لنا غابراً في ظل تسارع التطور العلمي الذي نشهده، وما زال الشباب العربي يدور في دائرة التعليم الأكاديمي المتخلف ونتائجه المعروفة مسبقاً، فنرى الطلبة يحثوّن الخطى ويبذلون الجهود الدؤوبة للتخرج والحصول على معدلات عالية في محتوى تعليمي غير واثقين منه، ويعرفون تماماً عدم جدواه، من خلال المعلومات التي يحصلون عليها عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المفتوحة على العالم، والتي تخولهم الاطلاع على معرفة – ولو كانت بسيطة- بما وصل إليه العلم في الدول المتقدمة.
ولا نغفل أيضاً أن الخريجين العرب الذين حصلوا على فرصة الدراسة في الخارج من خلال المنح الدراسية أو الهجرة يشكلون نوافذاً لرفاق مقاعد الدراسة، مطلّة على شكل التعليم المتقدم مما يفقد الطالب الذي لم يسافر أي إيمان بما يتعلمه في الجامعات العربية، فيجد نفسه في رحلته الأكاديمية الشاقة المتمثلة بأربع أو خمس أو ست سنوات بالحد الأدنى، وهي على كل حال فترة طويلة في حياة الإنسان اليوم، وهكذا يصبح هذا الطالب كمن يفك رموز لغز محيّر معقد من أجل الخروج من متاهة لا بد له من عبورها حتى يبدأ حياته العملية من الصفر.
ينبغي الإقرار أولاً أن الإضاءة على المشكلات التي يعاني منها التعليم والمتعلم لا تمثل لدينا رأياً سلبياً متشائماً، ذلك لأن الحلول موجودة أمام أعيننا جميعاً، ولا تتسم بالتعقيد أو طلب ما ليس يدرك، فهي تتلخص بإجراءات واضحة تبدأ بمنح ميزانيات كبيرة على تطوير الجامعات ووسائل التعليم فيها، تُصرف بشكل فعلي في سبيل إنشاء جيل متعلم يرتقي ببلاده إلى مصاف الدول المتقدمة في مجال التعليم، أيضاً تمثل الاستعانة بالكوادر العربية المتعلمة في الخارج في جامعات من الصف الأول، والتي لا يستهان بها في نقل التعليم العربي إلى مستوى آخر، تلك الكوادر التي نراها رافضةً العودة إلى بلادها لأن سوق العمل والمجتمع العلمي برمته لا يتناسب مع كفاءاتها دوناً عن الرواتب البخسة التي يتقاضاها العاملين في المجال العلمي مقارنة بالدول الأوروبية وأمريكا ودول شرق آسيا، ولا تقتصر الحلول على الجانب المادي فقط، بل تتمثل أيضاً بالسعي لزيادة المؤسسات التعليمية بما فيها الجامعات والمعاهد العالية لتكون قادرة على استيعاب أعداد الطلاب المتزايدة باطراد، وضبط تكاليف الدراسة الجامعية في القطاعين العام والخاص بما يتناسب مع قدرة الفرد العربي الذي يعاني من الأزمات الاقتصادية على تحملها، وفرض نظام المنح الداخلية على الجامعات الخاصة مما يسمح للطلاب المؤهلين وغير القادرين على دفع المبالغ التي تتطلبها دراستهم بخوض المعترك التعليمي دون حاجتهم إلى تغيير توجههم العلمي بسبب قلة إمكانياتهم المادية. وربما أخيراً تفعيل نظام الإيفاد والمنح الخارجية الذي لعب دوراً كبيراً في منتصف القرن الماضي في تطوير المجتمع العلمي والثقافي العربي وأوصله إلى مستوى أفضل مما هو عليه الآن بفارق كبير مقارنة مع دول العالم.
ويبقى السؤال: ما الذي يرتجيه الشباب العربي في ظل الاستبداد الأكاديمي؟ وكيف نتخلّص من تلك النظرة السوداوية التي تصوّر البلاد لعقول الشباب على شكل نفق مظلم؟ لا مخرج لدينا إلا في أحد خيارين، إما الرضوخ للأمر الواقع، وإما خوض الطريق أملاً في إيجاد النور بالطرف الآخر، فهل سنختار النور على الظلام، أم سنبقى تحت وطأة أقبح أنواع الاستبداد، والذي هو بحسب عبد الرحمن الكواكبي (استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل).