حسن اسميك
تُعرف الديمقراطية بأنها أحد أشكال الحكم السياسي القائمٌ علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة؛ هذا من حيث التعريف الحرفي أو المباشر لمفهومها؛ لكنني اتفق مع القائلين بأن مفهوم الديمقراطية هو أوسع من ذلك بكثير بحيث يمكن اعتبارها منظومة شاملة من الممارسات التي تشكل ثقافة جمعية لشعب من الشعوب، بمعنى أن الممارسة الديمقراطية لا تتعلق بالشأن السياسي فقط، بل إنها ثقافة شاملة تشكل بنية العقل الجمعي للمجتمع.
وأنا هنا لا أريد الدخول في جدل أو مناقشة تطور مفردة الديمقراطية تاريخياً أو في تعريفاتها المتعددة من حيث أشكالها وأنواعها وآلياتها في الفكر السياسي القديم والحديث، ولكنني ابدأ من حيث انتهت له الممارسة الديمقراطية في واقعنا المعاصر؛ من خلال تحققها في أرض الواقع كمنظومة شاملة تتضمن مصفوفة من الحقوق التي هي حق لكل فرد من أفراد المجتمع؛ وتشمل الحق في المشاركة السياسية للجميع والفصل بين السلطات وسيادة القانون والمساواة بين الأفراد والحق في الحرية الفردية، تُشكِّلُ في مجموعها ما يسمى بالديمقراطية اللِّيبرالية.
تُعد الديمقراطية (رغم سلبياتها) من أفضل أشكال وآليات الحكم التي توصل إليها البشر حتى الآن؛ فمن خلالها تمكّن الناس من المشاركة في الحكم بطريقة سلمية بعيدة عن العنف، فمن خلال حق الترشح والانتخاب يستطيع الفرد بأن يشارك في صناعة واتخاذ القرار السياسي، وهذا يحسب للديمقراطية كآلية لتنظيم التداول السلمي للسلطة.
نحن والديمقراطية
تكاد اغلب شرائح مجتمعاتنا متعطشة للديمقراطية، بل إنها تعدها الحلم الذي سينتشلها من جحيم أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ولكن السؤال الذي أطرحه هنا هل هي جادة في مطالبها تلك؟
بات من المعلوم أن الديمقراطية كمنظومة شاملة قد مرّت بعدة مراحل مختلفة وتطوّرت حتى وصلت إلى الشكل السائد حالياً في المجتمعات المتقدمة؛ حيث مرت هذه المجتمعات بمسيرة تاريخية طويلة من المخاضات والمعاناة التي أوصلتها إلى ذلك النمط من الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية، استطاعت من خلالها إنهاء الصراع العنيف على السلطة وطي صفحة حرب “الكل ضد الكل” وكل أشكال الاستبداد في مجتمعاتها. وبذلك سادت فيها قيم الحرية والمساواة وسيادة القانون والمواطنة، فتحقق السلام الاجتماعي بين جميع أفرادها.
أمّا في مجتمعاتنا فإنها ما زالت ترزح تحت وطأة الماضي وحمولته؛ فصراع العصبيات الفرعية يكاد ﻳﺠﻬّﺰ ما تبقّى من لحمتنا الوطنية؛ بحيث أصبح “كل مِنّا قابيل أخيه” و”ذئب أخيه” لأننا لم نتقن بعد مبدأ الحوار الإيجابي والتعاطي السلمي في إدارة أزماتنا ومشاكلنا، وأصبحت العداوات والضغائن والحروب والأنانية تحكمنا، رافعين شعار “أنا ومن بعدي الطوفان”، وهي الحالة التي جعلت أحد المفكرين الغربيين (كارل ويتفوجل) يصك مصطلح “الاستبداد الشرقي” ليصف نمط تفكير الشرق كله بما فيه شرقنا الأوسط الجريح!
ولكي نتأكد من ترسّخ فكرة الديمقراطية في أوساطنا الاجتماعية والشعبية –على الأقل- تعالوا بنا نستعرض بعض مفردات خطابنا المجتمعي وثقافتنا اليومية؛ سنجد من أكثرها تداولاً المفاهيم والمصطلحات التالية، وعلى سبيل المثال لا الحصر: التكفير، التخوين، الزندقة، الكراهية، التعصب، الطائفية، الاقصاء، التمييز…الخ؛ هذه بعض النماذج التي أريد البناء عليها وأقول إن الديمقراطية تحتاج مؤمنين بها “فلا ديمقراطية بدون ديمقراطيين” وبالتالي لا معنى للمطالبة بالديمقراطية في مجتمع غير ديمقراطي؛ بمعنى حتى تنجح الديمقراطية لا بد لها من حواضن شعبية تؤمن بالآخر الشريك لها في الوطن على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، ولا يجوز في –نظري- أن نختزل “الدمقرطة” في الجانب السياسي أو في صناديق الاقتراع فقط، لأن الديمقراطية كمنظومة تشمل كافة مجالات الحياة: السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
وحتى ننجح في تحقّق أو ترسيخ الديمقراطية لا بد أن تصبح ثقافة مجتمعية، لأن المجتمع اللاديمقراطي لن يفرز ديمقراطيين؛وهذه المهمة ليست منوطة بالحكومات فقط بل بمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والمفكرين والدعاة والمؤسسات الثقافية والأكاديمية والأسرة، وبغير ذلك ستكون مطالبتنا بالديمقراطية مجرّد شعار حالم!
وعليه، فإن قضيتنا الأساسية في الشرق الأوسط هي كيف نحقق هذه الثقافة المجتمعية التي تستند على عقد اجتماعي جديد يقوم على أساس ثقافة احترام الآخر الشريك لنا في الوطن -الدولة المدنية- الذي يشارك في بناءه الجميع ولا فضل لأحد إلا بمقدار ما يقدمه لوطنه. أما التمترس أو الاختباء وراء أطروحات ماضوية تعاني من نزعة (نستولوجية) تحنّ إلى ماضيها الغابر على حساب التَّغيير الهائل الذي شهده العالم، فإنه لن ينقلنا للأمام خطوة واحدة!
الديمقراطية خيار محلي أم خارجي؟
تعاني مجتمعاتنا من حساسية مفرطة لأي مشروع أو محاولة من خارج المنطقة حتى لو كانت في صالحنا، ومنها مشروع “الدّمقرطة”، وفي نظري لا بأس بهذه الحساسية؛ فالإصلاح هو قرار ذاتي، ولكنه يتطلب منها (إن كانت جادة) البدء الفوري في إحداث تغيير جذري في منظومتها الفكرية وثقافتها الاجتماعية والسياسية وذلك من خلال تفكيك بنية عقلها الجمعي والتخلَّص من ترسانته المفاهيمية الاستبدادية، ومن ثم إعادة بنائه من جديد وفق شروط صيرورة الحياة وقانون التغيّر والتطور الاجتماعي والثقافي في عالم اليوم، حتى تثبت -مجتمعاتنا- لنفسها وللعالم مدى صدقية توقها إلى فردوس الديمقراطية المنشود!
أما إذا تلكأنا في إصلاح ذواتنا بحجة أن الآخرين هم من يمنعوننا من تحقيق ذلك، فتلك إِذاً قسمةٌ ضيزى! لأن العائق الحقيقي هو ثقافتنا المتكلّسة، التي عالجها رواد النهضة العربية الأوائل وفي طليعتهم عبدالرحمن الكواكبي الذي ساهم في طرح قضايا التغيير وأسباب التخلف بعمق في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” والتي منها: استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، وفي ذلك يقول: (إن الله خلق الإنسان حرّا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل…).
لذلك فالإصرار على تحكّم الجهل والجمود في عقولنا يجعل منا مجتمعاتنا عصيّة على سُنة التغيير والتطور، وهو ما يجعلني أشك -أحياناً- في مدى نجاعة أطروحة المفكر السياسي فرانسيس فوكوياما الذي أعلن -بعد نهاية الحرب الباردة- عن “نهاية التاريخ” وانتصار الديمقراطية الليبرالية، وإمكانية دمقرطة العالم، على اعتبار أن الديمقراطية ستصبح خياراً عالمياً (معولَم) أو واقعياً في جميع أنحاء المعمورة، لعدم وجود بديل آخر منافس يستطيع تحقيق نتائج أفضل منها!