عندما تلتقي زعيم دولة عربية، حتى لو جمعتكما قديماً صداقة عميقة، تتوقع أن يكون اللقاء قصيراً مقتضباً، ومع ذلك، فقد استمر لقاءنا لساعات حيث ناقشنا كل شيء من غزو روسيا لأوكرانيا إلى تأثير الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط على السياسة العالمية اليوم.
بدأ حديثنا، كما هو حديث الكثيرين هذه الأيام، حول من سينتصر بالحرب في أوكرانيا!
الرئيس فلاديمير بوتين يرغب في استعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي الذي كان يوما ما هائلاً، وربما القيصرية الروسية الأكبر أيضًا، ومن ثم تحويلها إلى قوة عالمية كبرى تنافس من حيث الحجم والتأثير أي قوة في الغرب، والولايات المتحدة، على وجه الخصوص.
اتفقنا على أنه ما من شك في أن غزو بوتين سيعيد تشكيل النظام العالمي. إذا خسرت روسيا، سيصبح نظاما ثنائي القطب (الصين ضد الولايات المتحدة). وإذا انتصرت روسيا، سيصبح نظاماً متعدد الأقطاب (الصين وروسيا ضد الولايات المتحدة).
إذا خسر بوتين، فسيحمله التاريخ المسؤولية عن انهيار القوة العالمية لروسيا لأن العديد من المناطق التي تشكل روسيا الحديثة ترغب في الاستقلال والحكم الذاتي. ولم يمنعها إلى الآن شيءٌ سوى القيادة المركزية القوية والحازمة في موسكو.
كان هذا الموضوع المباشر لحديثنا.
أما بشكل غير مباشر، فقد دار حديثنا حول مسائل فلسفية أعمق.
هل من المعقول أن يتمتع القائد بسلطة مطلقة؟ من يرسم مسار التاريخ الحديث: القائد ذو الكاريزما الذي يتمتع بالسلطة المطلقة أم الدول المؤسساتية ذات الأهداف الجماعية؟
من الطبيعي، أن يختار الرئيس القائد الكاريزماتي على المؤسسة، وقال إن كاريزما البطل ستمكنه من التأثير في التاريخ وتغيير مجراه، وأنه كلما كان قادرًا على تمثيل روح البطولة في نفسه واستخدامها للتأثير على من حوله، كلما كان قادرًا على الاستئثار بالنصر وضمان جانبه.
وعندما قلت له إن وجهة نظره تستحق التوثيق والكتابة عنها، أجاب بأنه لا يمانع بشرط عدم ذكر اسمه. ثم عقّب مازحاً: “إذا عزمت على كتابة شيء فدع حديثنا هذا يأخذ منحاه الفكري المستقل بعيداً عن أي موقف سياسي”.
أدركت من يسر الحوار بيننا أن الوقت متاح لنتحدث طويلاً، قررت طرح سؤال معقد واعقبته بما اعتقدت أنها الإجابة الصحيحة.
كيف هزمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون الاتحاد السوفيتي القوي القادر على السيطرة على العالم مع التهديد المتمثل في 35,000 سلاح نووي مهيأ لإطلاق النار عبر مساحة أرضية أوراسية شاسعة للغاية تشمل 11 منطقة زمنية؟
أجبت أن الاتحاد السوفيتي لم يكن اتحاداً حقيقياً لمؤسسات أو دول، بل كان، وكما وصفه أهل بيته لاحقاً، دولة فرد مستبد أسسها جوزيف ستالين الطاغية والذي رغم قوته الفردية والكاريزما التي تحلى بها، إلا أنه ترك من خلفه دولة ضعيفة تفككت حال تحديها بشكل مباشر في لعبة شطرنج دولية مع الدول الغربية التي تقودها المؤسسات.
دافع صديقي عن دور القائد “الكاريزمي” في تشكيل التاريخ.
جادل قائلاً: “ربما ينبغي علي التنويه إلى أنني لا أنسب للقائد الكاريزمي قوة مطلقة، ولا يمكن نزع النسبية عن قدرته، بل ستبقى أفعاله مرهونة بالمحاولة والفشل، لذلك ينجح بعض القادة الأقوياء وليس جميعهم، ولأنه لا بطولة دون مواجهة قوة غاشمة وعدو واضح، فإن سياق حديثنا عن البطولة اليوم في مجال السياسة يفرض المواجهة مع أمريكا باعتبارها القوة المهيمنة على العالم، وهي أيضاً السبب الرئيس لمشكلاته وأزماته، ولا يمكن تجاهل باعها الطويل في التآمر ضد الشعوب وقادتها”.
إنه معجب بشخصية بوتين. ووفقا له فإن حرب الرئيس الروسي ضد الغرب تندرج وبحسب قوله: “تحت مشروعية الدفاع عن النفس، لا أقصد نفسه كفرد، وإنما كقائد دولة لا ترغب في تقديم فروض الطاعة لواشنطن وحلفائها”.
أشرت إلى أنه إذا خسرت روسيا الحرب أو تركت ساحة المعركة خالية الوفاض، فلن يُنظر إلى بوتين على أنه بطل، بل سيصفه كثيرون حينها بالمغامر، سيتهمه آخرون بأنه ضحى ببلده وشعبه على مذبح الغرور والطموح.
استنكر الزعيم بشدة فرض الهزيمة هذا. وأشار إلى أن العقوبات الغربية هي أسهل عبء ستواجهه روسيا، حيث أن اصطفاف الصين والهند إلى جانبها يجعل حتى أشد العقوبات “نمرًا من ورق” .
وأضاف أن الشرق في الحقيقة يقف على أعتاب تخليص العالم من قبضة الدولار على عنق الاقتصاد العالمي.
كان الرئيس واثقاً من أن النصر سيكون للـ “المعسكر الشرقي” كما وصفه، وأن حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن عالم متعدد الأقطاب بين الصين وروسيا وأميركا والغرب سيكون حتمياً.
قال الرئيس إن أعنف النزاعات المسلحة وقعت في القارة الآسيوية (بشكل أكثر تحديدًا، في الشرق الأوسط) وأوروبا الشرقية. وأشرت كيف أن الغربيين يعيدون هذا الأمر إلى الأنظمة السياسية في المنطقة، فهي بالأغلب إما دكتاتورية متسلطة وحكومات قمعية، وإما أنها دول غير مستقرة في بنيتها السياسية.
كان لدي ما يكفي من الوقت لشرح أن موقف السلام الديموقراطي يعود إلى القرن الثامن عشر للفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي تصور إنشاء منطقة سلام بين الدول التي تشكلت كجمهوريات، دون أن يميز إذا كانت ديمقراطية أم غير ديمقراطية.
ولقد تبنت القوى الغربية نظرية كانط، فالرئيس وودرو ويلسون مثلاً، قال في مسعاه للحصول على موافقة الكونغرس لشن حرب أميركية ضد ألمانيا: إن أميركا بحاجة لدخول الحرب العالمية الأولى لجعل العالم “آمنًا للديموقراطية”.
حتى يومنا هذا، تعتبر الدول الغربية الدفاع عن الديموقراطية بمثابة قانون يحكم العلاقات الدولية بين عالمهم الغربي المستقر والديموقراطي وما يسمونه بالعالم الشرقي المضطرب والديكتاتوري.
حتى لو قبلنا أن الديموقراطية في الشرق تؤدي إلى السلام، والسلام يؤدي إلى الديموقراطية، فقد سلبنا الغرب أي فرصة للوصول إلى الديموقراطية بمفردنا من خلال فرض نماذجهم عليها، وأحيانًا عن طريق القوة، وبالتالي حرماننا من الديموقراطية والسلام في آن معاً -عن معرفة أو عن جهل.
استبعدت الجهل في هذا السياق، لأنني أظن أن العديد من الصراعات مخططة بدقة وعناية في الغرف المظلمة، وذلك لأسباب وأهداف متعددة، منها المعلنة ومنها المخفية، لكن جميعها تحمل في طياتها أطماع السيطرة على الموارد الطبيعية وتوسيع سلطة الغرب وتأثيره في العالم.
حتى وصولنا لهذه النقطة من الحديث، كان صديقي الرئيس يصغي بانتباه المتحمس، فقد شعرت أنني كنت أقول ما يود سماعه، موافقاً على أن بعض الأحداث قد جرت بتخطيط غربي مسبق وإدارة محكمة. ووافق أيضاً على أن الغرب يتبنى سياسة إضعاف الآخرين ومن ثم إدارة صراعاتهم اللاحقة لضمان مصالحه الذاتية، حتى لو أدى ذلك إلى خسائر يتكبدها حلفاؤه في بعض الحالات، الأمر الذي قد تثبت صحته في حالة أوكرانيا.اتفقنا أيضاً على أن قرار بوتين بشن الحرب لم يكن مفاجئاً للغربيين، بل لقد دفعوه دفعاً نحو هذا القرار، من خلال التصريحات الاستفزازية والتصعيدية حول ضم أوكرانيا والدول الأخرى المجاورة لروسيا إلى الناتو، كانوا يتعاملون مع فلاديمير بوتين – وبحسب وصفهم هم – كشخص طامح حد التهور، ومبالغ بالاعتداد بنفسه، والزعيم البطل الشجاع – بحسب وصف الرئيس – لن يقبل بأقل من استعادة نفوذ روسيا وقوتها إلى مجدهما السابق.
تبنت القوى الغربية، المدركة تمامًا لطموحات بوتين وقدرات روسيا النووية، سياسة طويلة المدى. غضوا الطرف عن سياساته عندما ضم البلدان المجاورة. وبذلك، شجعوه على المضي في الطريق الذي يريدونه له حتى أصبح في مواجهة الفخ الذي نصبوه له: احتمال الهزيمة أمام القوات العسكرية الأوكرانية التي دربتها قوات العمليات الخاصة الأميركية والمجهزة بأسلحة متفوقة أكثر مما كانت عليه في عام 2014 عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية دون قتال.
إن قواعد اللعبة الغربية نفسها طُبقت على العراق حين سُمح لصدام حسين أن يتوهم أنه سينتصر في المعارك التي ستجعل منه “البطل” والقائد العربي الأول، لينتهي الأمر بسقوط الدولة العراقية التي لم تقم لها قائمة حتى الآن.
إن التاريخ يعيد نفسه اليوم مع بوتين، جادلت.
باختصار، إن افتقاد الغرب لنموذج القائد الكاريزمي في الحكم هو الميزة الأهم التي تسمح لمخططات أميركا وأوروبا بأن تصير واقعاً. إن سر انتصارهم يكمن في استمرارية مخططاتهم هذه، والمتأتية بالدرجة الأولى عن المؤسساتية.
على سبيل المثال، دعا صديقي الرئيس وبكل استخفاف الرئيس جو بايدن “بالرئيس العجوز والنائم”. فأجبته إنه ليس من المهم أن يُنظر إلى رؤساء الدول الديموقراطية من حيث النشاط والحيوية. دورهم الوحيد هو حماية وتعزيز مؤسسات دولهم. إن تغيير القادة في الديموقراطيات لا يغير مصالحها الوطنية، التي يتم تنفيذها بعناية من خلال أدوات مؤسسية متكاملة: سياسية، واقتصادية، وفكرية، وعلمية، وثقافية، وتكنولوجية – مع القوتين الخشنة والناعمة، بشكل مباشر أو بالوكالة.
ستسود في القرن الحادي والعشرين قوة التخطيط والرؤية على المدى الطويل والمعرفة والعلم وديموقراطية المؤسسات – وليس افتراضات وأوهام وأحلام الفرد المستبد أو الأنظمة الفئوية والطائفية الاستبدادية. وسيعلنون أن إنجازاتهم المنسقة هي انتصار الديموقراطية على الدكتاتورية، والتقدم على التخلف، والحرية على الاستبداد.
فمثلاً، أصبحت الصين -على الرغم من أنها لا تزال تعتبر دولة استبدادية- قوة اقتصادية عالمية بمجرد أن بدأت التفكير خارج الصندوق ودعمت البحث والتفكير العلمي ونظام المؤسسات القوية.
صاح الرئيس غاضبًا، “لا أفهم موقفك. أنت تتفق معي في التفاصيل لكننا نختلف في النتائج. أنت تتهم الغرب بأنه انتصر فقط من خلال الخطط والمؤامرات. هل أنت مع الغرب أم معاد له؟ “.
ليس لدي أي عداوة تجاه الغرب، أجبته. لطالما أعجبت بحضارتهم وتقدمهم وحداثتهم وليبراليتهم. لا أريد أن يوحي انتقادي بأنني أفضل الأنظمة الديكتاتورية على الديموقراطية، والتي قد لا تكون أكثر أشكال الحكم فعالية في الشرق، أضفت. أنا ببساطة أقوم بتقييم نظام الحكم من خلال مدى حمايته لأمن الدولة وتحقيقه لمصالح العليا لمواطنيها.
لذلك أؤمن بهامش كبير من النسبية والتباين بين مجموعة من أنظمة الحكم غير المتشابهة، ولكنها جميعاً صالحة، أؤمن ايضاً بأن بعض أشكال الحكم لم تعد مناسبة اليوم رغم أنها كانت مثالية تماماً في تاريخ سابق. إذ إن فلسفة الحكم والسلطة ليست معادلة رياضية مجردة، ولا قانوناً علمياً ثابتاً، بل فكرة حيوية ترتبط بحيوية المجتمع، فتولد وتكبر وتقوى وتضعف، وقد تموت. وليس ما أطرحه هنا مجرد رأي نظري فحسب، بل هو خياري العملي أيضاً في الحياة وفي علاقتي مع الشأن السياسي، فأنا مثلاً ورغم كل ما قلت بخصوص التقابل بين المؤسسة والفرد البطل، عندي لواقعنا العربي عموماً، ولواقع بلادي التي أعيش فيها خصوصاً، رأي مختلف تماماً وخارج عن إدارة المؤسسة المستقلة أو حكم الفرد المطلق. إذ أعتقد هنا أن العرب قد طوروا مع ظهور الإسلام، ثم عبر تاريخه، نظام حكم يجمع بين الزعامة والمسؤولية الفردية من جهة (والتي يتضمنها مفهوم “ولي الأمر”)، وبين المؤسسة العمومية من جهة أخرى، والتي ارتبطت بمفهوم الشورى (وما يلحق بها من حرية الرأي والتعبير وحق الاختلاف) تاريخياً. وينبغي هنا أن يُفهم هذا الكلام بحسب ما أعتقد أنه مبني على الارتباط بين السياسي والتعبدي (ولا أقول هنا السياسي والديني) وذلك بجعل طاعة ولي الأمر مسلكاً شرعياً وأمراً واجباً جاء تالياً بعد طاعة الله ورسوله، إن هذه الاعتبارات هي التي صاغت نظام حكم عربي إسلامي كان قابلاً للتطور في مراحل كثيرة، كما كان مصاباً بالتأخر والترهل في أحيان أخرى، ويبقى المطلوب دائماً تحديث هذا النظام وتطوير مؤسساته وتأصيل أحكامه الشرعية والتشجيع على الاجتهاد فيها، وبذلك نضمن عدم انجرافه نحو الاستبدادية الفردية أو نحو ضياع المسؤولية، فالتاريخ لا يرحم عادة من لا يحدثون أنظمة حكمهم وأساليب إدارة الشأن العام مع كل موجة تحديث اجتماعي أو معاصرة سياسية.
مع نهاية الحديث الساخن بيننا، سألني صديقي، المنفعل على نحو واضح: من المنتصر برأيك إذن، دول الديموقراطيات و”الحريات” والتعدديات، أم الدول التي يحكمها زعماء يمتلكون كل أدوات السلطة؟.
جادلت مرة أخرى بأن مؤسسات المجتمعات المتقدمة هي في نهاية المطاف أقوى في السياسة المعاصرة من أي قائد كاريزمي أو حاكم مستبد. لا أنكر أن الدول العربية مضطهدة منذ قرون، على أيدي الإمبراطورية العثمانية أولاً ثم من قبل المؤسسات البريطانية والفرنسية. لكن مع كل القادة البطوليين والكاريزميين الذين أنتجتهم منطقتنا، لا يمكننا أن نلوم الحكومات الأجنبية على أخطائنا.
كنا، في ذلك الوقت، مجرد كيانات هشة اختارت أن تركن لنهج ضعيف جعل القادة يتفوقون على المؤسسات. لقد واصلنا لعقود من الزمن بنفس النهج، بافتراض، أن ما نجح في أيام غزوات القادة سيبقى صالحًا إلى الأبد. ولم ننتبه إلى العالم المتجدد من حولنا ولا لمصادر القوة الجديدة القائمة على الحرية والعلم والتقدم الفلسفي والتكنولوجيا.
أما بالنسبة للغرب، فإن الاستمرارية المؤكدة لمؤسساته فهي أقوى مؤشر على الحكم الناجح؛ حيث يتغير الرؤساء والحكام، ويكون التركيز على المؤسسات القائمة. ونتيجة لذلك، قلت، إن الدول الغربية تمكنت من التطور والازدهار على الرغم من الصعوبات الشديدة والخلافات الداخلية الحادة.
وفي المقابل، على الرغم من ثروتها الطبيعية وثقافتها الغنية، تظل معظم دولنا هشة ضعيفة ومنقوصة السيادة.
نلوم الغرب بوصفه الشرير الذي دمر منطقتنا وجعلنا أضعف. وبعادات عمرها قرون، نصرخ في يأس طلبا لـ “قائد بشخصية كاريزمية” ينقذنا!
عالقاً في خطاب عاطفي، سألت الرئيس بشكل بلاغي، “ينقذنا من ماذا؟”
“من أنفسنا”، أعلنت
ربما لأني قلت الكثير مما لا يود السيد الرئيس سماعه، فقد انتهى اجتماعنا بسرعة مع القليل من كرم الضيافة الذي بدأ به.