يعني مفهوم الثقافة بحسب تعريف منظمة اليونسكو بأنها: المميزات المعنوية والروحية والفكرية، التي تميز مجتمع ما أو مجموعة اجتماعية معا؛ ويشمل أيضا الفنون والآداب وأنماط الحياة ومنظومة القيم الاجتماعية والتقاليد والمعتقدات.
لا شك أن العالم الذي نعيش فيه اليوم يتميز بالتنوع في الأفكار والثقافات والتنافس الدائم لتحقيق الأهداف والغايات. عالم يتميز بأن لكل مجتمع هويته وثقافته الخاصة به، والتي تمثل رصيدا معرفياً وفكرياً له في جميع المجالات الإبداعية والمعرفية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أين شبابنا اليوم من”ثقافة القراءة، وقراءة الثقافة” وما مدى حضورها بينهم؟ وهل مؤشرات هذه الثقافة واضحة لهؤلاء الشباب بحيث تمكنهم من تأسيس هوية خاصة بهم؟
يشير التقرير الصادر عن المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) في 8 سبتمبر2019 أن عدد الأميين في العالم العربي يقدّر بحوالي 74 مليون نسمة ما يقابل 21 بالمائة من إجمالي سكان الدول العربية تقريبا وفي حدود 10 بالمائة من مجموع عدد الأمّيين في العالم!
ومع ذلك هناك خطأ شائع بيننا يقول: أن الأمية تعني أمية القراءة فقط، متناسياً أن هناك نوعا آخر من الأمية لا يقل خطورة عن الأولى؛ يدعى “الأمية الفكرية”؛ وهي تعني تدني مستوى الوعي عند الإنسان بحيث أنه يعجز عن قراءة واقعه وبالتالي لا يستطيع أن يكون حراً في فكره بل تابعا للآخرين.
وفي رأيي أن المجتمعات الحية هي التي تستطيع إنتاج ثقافة محلية مبدعة في طابعها، وعالمية في جوهرها وبعدها الإنساني في الوقت عينه؛ فمن العناصر القوية لأي دولة أو مجتمع يريد نشر قيمه في العالم، هو أن يتمتع بثقافة عالمية عابرة للحدود الوطنية الضيقة، وبقدر قوتها وفرادتها تكتسح فضاء العالم.
وكلما كان المجتمع متطوراً مبدعاً في كافة المجالات المادية (المدنية) والمعنوية (الثقافة) كلما كان متحضراً وأصبح قبلة أنظار العالم ومحط احترام الشعوب؛ لأن الحضارة من الحضور على مسرح التاريخ، أما المجتمع الذي ما زال يئن تحت وطأة وحمولة ثقافة الماضي بكل تجلياتها فحتما سيكون خارج التاريخ؛ لأنه لن يكون مبدعاً و خلاقاً على صعيده المحلي وبالتالي كيف له أن يكون مؤثراً في العالم؟
لقد القت الأزمات التي تعيشها منطقتنا بظلالها على مجتمعاتنا؛حيث ساهمت في تأبيد القديم ورسوخه ،فهي لم تترك لنا فرصة لالتقاط انفاسنا حتى نغربل ثقافتنا التي تشكلت عبر التاريخ ،مما جعلها تتكلس على شكل طبقات اعاقت عقلنا الجمعي، وبذلك زُجَّ بمجتمعاتنا في أتون حياة صعبة وطاحنة لا ترحم،حيث أصبح هم إنساننا الوحيد فيها الحصول على لقمة العيش.
مما زاد الطين بلة؛ تسارع إيقاع الحياة الذي لا يرحم؛ فقد تراجع الاهتمام بالشأن الثقافي في مجتمعاتنا، ما ساهم في تعميق الأمية الفكرية وتراجع مستوى الوعي عند شرائح واسعة من شبابنا، بل أن الثقافة الواسعة المنفتحة تكاد تنحصر في قلة من أبنائنا، أما البقية فقد وجدوا ضالتهم في عالم الأفكار المعلبة الضيقة الأفق التي تنظر للآخر نظرة عدائية،وبالتالي رأينا بعضهم يلتحق بركب جماعات التطرف والتشدد التي أهلكت الحرث والنسل فأضاعت مستقبلهم ومستقبل أوطانهم.
إن انشغال الشباب عن تنمية ثقافتهم بسبب ضغوطات الحياة؛سيؤدي إلى أخذهم بعيدا عن تشكيل ثقافة واعية مدركة لما يدور حولهم، وبالتالي سيفقد هؤلاء الشباب القدرة على تكوين شخصيات مستقلة تتمتع بحس نقدي ناضج يستطيع أن يحاكم موروثه الثقافي القديم الذي يتحكم في عقل مجتمعاتنا الجمعي، والذي انتج بعض القيم السلبية التي أودت بها الى الجحيم وأخرجتها من التاريخ!
من هو المثقف
هل نطلق لفظ المثقف على من يحمل الشهادة الجامعية فقط؟
من وجهة نظري أن الثقافة ترتبط بالمعرفة ولا علاقة لها بالشهادات الجامعية العليا؛ لأن الثقافة موقف للروح والعقل تجاه النفس والمجتمع والعالم، لذلك من تحصل على وعي عميق بذاته ومحيطه القريب والبعيد، هو المثقف الحقيقي الذي يستطيع أن يكون له رأي وموقف من قضايا مجتمعه والعالم ،وبغير ذلك الوعي فإن الإنسان مهما كان مستوى تحصيله العلمي سيكون تابعاً وملتحقاً في ما يسمى بثقافة “عقلية القطيع “التي تقوده إلى حيث أرادت حينها ينطبق عليه قول الشاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وبقدر ما يثري الشاب معرفته من خلال القراءة وامتلاك أدوات المعرفة كلما اكتسب احتراما لذاته،وهنا لا اتحدث عن اكتساب للشهرة؛بل عن كيف يكون شبابنا شباباً مثقفاً مكتسباً لقيم التسامح وثقافة العصر،لأن الثقافة ثمرة النشاط الفكري الذي يحققه الإنسان ، وهي المحدد لنمط العلاقات بين الأفراد ومدى تفاعلهم في المجتمع ،واذا حققنا ذلك حتما ستتسع رؤيتنا للأشياء من حولنا،تماما كما قال عباس العقاد: “نحن نقرأ لنبتعد عن نقطة الجهل ، لا لنصل الى نقطة العلم”.
هناك شريحة واسعة من الشباب تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة سريعة في تحصيل الثقافة؛ورغم أهمية هذه الوسائل كمصادر لاستقاء المعلومة والمعرفة إلا أنها لا تستطيع تغطية كل المسائل الثقافية العميقة،وبالتالي سيكون اقتصار الشباب عليها ليس في صالح تكوين معرفتهم الشاملة والمتنوعة .
كلما كانت المجتمعات في تغير وتطور مستمر فإن الثقافة أيضا دائمة التغير، وتقع مسؤولية التغيير الإيجابي لشبابنا على المؤسسات التعليمية والاجتماعية، ففي ظل التغير السريع في التكنولوجيا ونحن على أبواب الدخول في عالم الرقمنة، لا بد أن نحقق الموازنة بين غرس الثقافة بمعناها الواسع وبين إيجاد قابلية التجديد لدى شبابنا، ومن هنا اتفق مع مقولة (حامل الثقافة هو الإنسان، وحامل الحضارة هو المجتمع).
وإنني أدعو بأن يكون لشبابنا مطلق حرية التعبير عن آرائهم، حتي لا تتحكم بهم سيكولوجيا القطيع؛التي إن استحكمت في مجتمع ما جعلت أفراده مجرد تابعين أو غوغاء بدون شخصية مستقلة تستطيع الحكم على الأشياء.
وكعادتي دائما فأنا متفائل بشبابنا؛ رغم أن المشاكل والتحدّيات التي تواجههم كثيرة والخلاص منها ليس باليسير،لكن بإمكانهم ومع العمل المتواصل أن يتغلبوا عليها حتى يرتقوا بثقافتهم الذاتية وينهضوا بمجتمعاتهم نحو مستقبل أفضل. وكما أن فكرة التغيير والعزم عليه يبدآن من الفرد، فإن إحداث التغيير يحتاج إلى جهود المجتمع ومؤسساته؛ من خلال توفير مناخ التفكير الحر المبدع الذي لا يحجر على الرأي والفكر،وذلك سعياً للإرتقاء بعقول أفراده نحو اقتحام مجاهيل العلم و العالم، حتى يتحقق التغيير الذي يشكل الشباب دعامته الحقيقية.