حسن اسميك
الرسالة الملكية بين العيد الستين ومئوية الأردن
في ذكرى ميلاده الستين، وفي العام الذي يوافق مطلع المئوية الثانية من عمر المملكة الأردنية الهاشمية، آثر جلالة الملك عبد الله الثاني ألاّ تقتصر رسالته الملكيّة بهذه المناسبة على قبول التهنئة والمباركات، بل تضمنت خطاباً سياسياً واجتماعياً شاملاً، اتسم بالشفافية والمصارحة، ومشاركة المواطنين بالحقائق، واستعراض التحديات والعقبات التي يواجهها الأردن اليوم.
ومن أهم ما عكسته رسالة الملك تأكيده على المضي في الإرث الذي أسس له الآباء والأجداد الهاشميين، والعمل على تعزيز البناء الذي أنجزوه لاستكمال مسيرة تطوير المملكة ونموها على خطى رؤية استراتيجية بعيدة المدى، وعبر مشروعٍ وطني شامل وعابر للحكومات، وخارطة طريق ترسم ملامح المرحلة القادمة للدولة في مطلع مئويتها الثانية، وبما يضمن أن يكون للأردن موقعه في مصاف الدول المتقدمة.
وتنطلق الرسالة الملكيّة في تشخيصها للواقع الاجتماعي والحكومي من الإقرار الذي تضمنته كلمات الملك عن الفجوة القائمة بين واقع الأردن اليوم وما ينبغي أن يكون عليه، فقوله: “إنّ واقعنا لا يرتقي إلى مستوى طموحنا” يطرح بشكل مباشرة لبّ المشكلة التي تريد الرسالة تسليط الضوء عليها، أما التوجه نحو الحلّ، فقد أشار إليه الملك بشكل واضح وصريح، حين خاطب الأردنيين، باعتباره واحداً منهم قبل أن يكون قائدهم، قائلاً: “لا أرى مكانًا لنا إلا في مقدمة التغيير”.
فما هو “التغيير” الذي يقصده الخطاب الملكيّ؟ وكيف يمكن المضيّ به؟ وما ملامح المرحلة القادمة التي سيقبل الأردن عليها؟ كل هذه الأسئلة ستكون برسم جميع المعنيين في الأردن، قيادة وحكومة ومؤسسات تشريعية وتنفيذية ، ولا يُستثنى الشعب من ذلك، خاصة وأن الأردن مقبل على حوارٍ وطني عام بحسب ما يشير إليه توجّه الإرادة الملكيّة في الرسالة.
وتأتي أهمية الأفكار التي تناولها الملك كونها تطرح مشروع الاستجابة لجملة ما يواجهه الأردن اليوم من التحديات الداخلية والخارجية، وعلى جميع المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، والتي يفرضها أمنياً محيطٌ إقليمي غير مستقر، وحدودٌ غير آمنة مع سورية والعراق، الأمر الذي يسبب بالغ الضرر في العمق الاستراتيجي للأردن. ليترافق ذلك مع انخفاض المنفعة الاقتصادية المأمولة من أسواق المملكة الطبيعية، وتراكم المشكلات الإدارية في المؤسسات الحكومية والوطنية.. إن هذه التحديات التي تعرقل التطوير والانفتاح الكامل الذي ننشده، تحتاج بداية إلى تمتين الجبهة الداخلية، وتسخير جميع الجهود لرسم سياسات الاعتماد على الذات، والسير بها،على ضوء خطط وبرامج اقتصادية فعّالة، بالتوازي مع تكريس لغة الحوار وبناء الثقة، بما يتكامل مع جهود الملك الحثيثة لمعالجة جميع التحديات إقليمياً ودولياً.
ومع أن الرسالة الملكية وضعت الخطوط العريضة لخطة عمل شاملة، فإن وضع هذه الخطة موضع التنفيذ يتطلب متابعة جديّة وعاجلة من قبل الحكومة الأردنية الحالية والحكومات القادمة، تبدأ بتغيير النهج الإداري وعلاج ما تعانيه الدولة من ترهلٍ وغياب الكفاءات، ومواجهة التحديات التي أفرزها التعقيد البيروقراطي والقوى التقليدية التي تقف حائلاً أمام التطور والتحديث. وليس بخاف على أحد أن أهم مظاهر الترهل الإداري الذي يعاني منه الأداء الحكومي هو قلّة النخب والقيادات القادرة على اتخاذ القرارات السليمة التي تصبُّ في مصلحة الوطن والمواطن، بالإضافة إلى تفشي آفة تقديم المصالح الضيقة على المصلحة العامة، ناهيك عن انتشار الشائعات التي ساهمت في تزايد المظاهر المرتبطة بالشعبوية. ولذلك فإن غياب برنامج وطني يستهدف معالجة هذه المشكلات سيؤدي إلى استمرار تلك التحديات وتوريثها للحكومات القادمة.
إذن، يبدأ الإصلاح الإداري الذي ينشده الأردن من إرادة قوية تدعم وتحفّز مشاريع التطوير، وتركز على اختيار القيادات العليا على أسس علميّة ومنهجية مناسبة، فـ” القطاع العام لن يتطور إلا بتعيين قيادات كفؤة”، كما تشير الرسالة الملكيّة بوضوح، وحيث أن نظام اختيار الكفاءات ما زال يخضع للواسطة والمحسوبية، فإن تحقيق رؤى الملك يتطلب الإصرار على تطبيق الشفافية والمساءلة والمحاسبة، واعتماد معايير ومؤشرات الأداء الرئيسية في جميع الدوائر الحكومية وعلى جميع المستويات، إلى جانب ربط التخطيط والموازنات الماليّة لكل وزارة بالموازنة العامة وعبر آليات مناسبة ومدروسة. وهذا ما يحتم ضرورة التوجه ضمن هذا الإطار إلى إنشاء البنك الأردني الوطني للإدارة العامة، الذي يجب أن يحتوي قاعدة بيانات كل المعلومات المتعلقة بالإدارة العامة، الأمر الذي سيسهم في توفير الوقت والجهد وتحريّ الدقة والمرونة في العمل الإداري، أسوة بالدول المتقدمة.
في سياق آخر، لم تغب هموم المواطن الأردني ومطالبه بتحقيق حياة كريمة وآمنة عن خطاب الملك، والذي تضمن بوصلة واضحة نحو نهضة اقتصادية شاملة، تنطلق أولاً من تحديد مجموعة الأهداف القابلة للقياس بهذا الشأن، ومن ثم وضعها ضمن محاور تنفيذية تتعهدها الحكومات، لتصبُّ في خدمة مطالب الشعب، مع التركيز على الآفاق المستقبلية الضامنة لاستمرار تلبية هذه المطالب ورفع مستواها كمّاً ونوعاً، إذ تؤكد هذه الآفاق على المعالجة الجادة لموضوعي البطالة والفقر. ولذلك ينبغي دعم التوجه الحكومي نحو خلق فرص عمل جديدة في قطاعات غير تقليدية كالسياحة بشكل عام، والسياحة العلاجية بشكل خاص، والطاقة المتجددة والبديلة، وضرورة التركيز على دعم الصناعات التكنولوجية، وتنشيط حركة المرور التجارية مع الدول المجاورة وفي الإقليم، خاصة وأن هذه القطاعات باتت حيوية وذات آفاق مستقبلية واعدة، ويرتبط تطويرها بضرورة وضع تشريعات اقتصادية متطورة تدعم الاستثمار وتمنح الأردن مرتبة متقدمة في التنافس الإقليمي الذي تشهده تلك القطاعات. كما أنه من الضروري أيضاً توسيع مروحة انتشار هذه القطاعات على عموم أرض المملكة وفي المحافظات، ما يخفف الضغط على العاصمة، ويسهم في جذب الشباب والقوى العاملة في جميع المناطق.
وتأتي أهمية التطوير التشريعي كحل لا بد منه أمام المشكلات التي تسببت بها التشريعات المعيقة للنمو الاقتصادي، بالإضافة للدور السلبي الذي تلعبه مؤسسة تشجيع الاستثمار، والتي بات عملها موضع تساؤل من قبل الكثيرين، إذ إن طبيعة وضعها الحالي تجعلها، وعلى العكس مما يشير اسمها، في حكم المعرقل للاستثمار، فهي لم تراكم سوى الفشل الوظيفي عاماً بعد عام، ولا يرقى أداؤها الفعلي للمستوى المطلوب، بل يكاد ينحصر في عمل شركات ومكاتب تعقيب المعاملات، بينما واقعها التنظيمي مكبّل بالقوانين التي هي في الأصل لا تساعد على الاستثمار.
إن تطوير اقتصاد الدول والدفع به نحو النمو والإزدهار يتطلب توافر حزمة واسعة وشاملة من القوانين والتشريعات العصرية والمرنة، وقابلية كبيرة لتحديث وتطوير هذه القوانين وتعليماتها التنفيذية بما يضمن دائماً تحقيق النمو الاقتصادي واعتباره الهدف الرئيس الذي لأجله يتم تسخير جميع الوسائل والأدوات، وإزالة جميع المعيقات التي يعاني منها الواقع الحالي لجميع الوزرات والدوائر الحكومية لتعمل جميعها، وكل حسب اختصاصه، ضمن استراتيجية واحدة داعمة للاستثمار ومشجعة، وبذلك يصبح دعم الاستثمار رؤية عامة تلتزم بها وتتعاون لأجل تحقيقها جميع المؤسسات، وليس فقط مؤسسة واحدة بعينها. ومن المهم أيضاً في هذا السياق أن تكون قوانين وقرارات تسهيل وجذب الاستثمارات واستقطابها قابلة للتطوير والتحسين بشكل فوري وبما يضمن سرعة الاستجابة لحاجات المستثمرين دون التقيد بحرفية القوانين والتشريعات التي مهما تم تجديدها فإنها لا تستطيع الإلمام بكل ما قد يطرأ من الحالات الجديدة التي غفل عنها المشرعون، وهذا أمر طبيعي وسنة من سنن الحياة والعمل.
وبالإضافة لما سبق، سيكون من الضروري والإيجابي أيضاً منح موظفي المؤسسة والمشرفين عليها حرية أكبر في اتخاذ القرارات، والمبادرة الشخصية لحل المشكلات وتجاوز العقبات، والقدرة على التنفيذ بعيداً عن عرقلة الإجراءات البيروقراطية، أو الخوف من سيف العقوبات المسلكية المسلط على الجميع، خاصة وأن تعقد المجال الاقتصادي اليوم واتساع دوائره بات يفرض توافر هامش أوسع في صلاحيات القائمين على المؤسسات المعنية بدعم الاستثمار وتطويره. وبهذا النهج من التفكير يمكن تقديم تسهيلات حقيقية للتشجيع الفعلي على الاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال وجذبها نحو الأردن، أما الاكتفاء بالدور الحالي للمؤسسة فلم يعد يجدي نفعاً في ظل تسارع عجلة الاقتصاد العالمية واتساع فرص المنافسة والنمو معاً.
الأردن اليوم بأمس الحاجة لتشكيل مؤسسة جديدة كلياً، تكون بديلاً عن المؤسسة الحالية لتشجيع الاستثمار، بحيث تساير صيرورة التحديث والتطوير بشكل دائم، وتسهل حركة رؤوس الأموال للاستثمار في الدولة. وتكون قادرة على إصدار تشريعاتها وإقرارها وتنفيذها، وضمان وضوحها لحمايتها من التعطيل البيروقراطي، أو التدخلات الشخصية والتأويلات الفردية التي قد تأتي بعكس النتائج المرجوة منها. والقيام بخطوات جديّة لكفّ يد المتنفذين، والتحديث المستمر لخطط جذب المستثمرين ودعم إقامة وتطوير المشاريع الاقتصادية دون أية قيود وعراقيل.
إلى جانب ذلك، تتطلب معالجة البطالة أيضاً وضع خطة شاملة لتكامل عمل القطاعين العام والخاص، بحيث تهدف هذه الخطة إلى مواجهة الصعوبات التي يعاني منها كلا القطاعين، فالقطاع العام عاجز بإمكاناته الحالية عن تأمين فرص عمل جديدة، أما الخاص فما زال يعاني الآثار السلبية التي تسببت بها ظروف وباء كورونا داخل المملكة وخارجها، إضافة لما كان يعانيه سابقاً بسبب ترهل العمل الإداري الراعي للقطاع الخاص، وجمود القوانين والتعليمات التنظيمية التي أثرت على إضعافه لسنوات طويلة، ما أدى إلى تعقّد مشكلة البطالة وتأخير الحلول الفعالة لها. وفي هذا الإطار.. دعا الملك إلى البدء بسلسلة حوارات تشاركية بين القطاعين في المملكة، بضمانته الشخصية، لتضع مخرجات هذه الحوارات خطة تنفيذية لتطوير المشاريع وجلب الاستثمارات الخارجية والسير في طريق النهوض الاقتصادي الشامل.
وانطلاقاً من أن التغيير سمة العصر، فإن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية تتطلب مواكبةً دائمة للتقدم التكنولوجي والحضاري في العالم، والذي بات مقياس تطوّر الدول في العصر الراهن. ومع أن الأردن كان قد بدأ منذ عام 2001 بتطبيق الحكومة الإلكترونية، لكن مهمتها في توعية المواطن الأردني بها وبخدماتها ما زالت شبه غائبة، الأمر الذي يحرم المواطنين من فوائد هذه الحكومة وعلى رأسها توفير الجهد والوقت وتسهيل جميع الإجراءات، وهذا يتطلب أن تتوجه الحكومة نحو إقامة دورات وورش عمل عامة ومجانية لجميع المواطنين، وخاصة في الجامعات والمراكز المجتمعية، ليتعرف الجميع على الأدوات التكنولوجية الخاصة بالتعاطي مع الحكومة الإلكترونية، وعلى أهمية ذلك في التخفيف من قيود البيروقراطية وتسهيل الإجراءات وخفض التكاليف وتوفير الوقت والحد قدر الإمكان من التواصل غير الضروري بين المواطن والمؤسسات الإدارية، ما سيخفف من الفساد الإداري وسيقلص مظاهر المحسوبية والمنافع الشخصية الضيقة.
من ناحية أخرى، يحتاج أيّ تطوير وتحديث إلى بناء الثقة المتبادلة بين المواطن من جهة، وبين الحكومة ومختلف قطاعات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني من جهة ثانية، الأمر الذي يتيح للمواطن الشعور بأنه شريك حقيقي وفاعل مع حكومته في اتخاذ القرارات والمشاركة في الشأن العام. وتعدّ تجربة اللجنة الملكيّة لتحديث المنظومة السياسية، والتي شكلها وضَمِنها الملك عبد الله، طرحاً مهماً وخطوة جريئة وملهمة في هذا السياق، ونموذجاً واعداً يمكن تعميمه على قطاعات أخرى. غير أن تحديات كثيرة وقفت حجر عثرة أمام تحقيق المأمول منها، إذ لم ينجح المسؤولون عن هذه اللجنة، والقائمون بأعمالها ممن أُنيطت بهم عملية التنفيذ، في إدراك الهدف العميق من تشكيلها، ولم يكونوا على قدر الكفاءة المطلوبة للتصدي لهذا النوع الحساس والدقيق من المسؤولية، وخاصة من جهة الإخفاق في تجاوز الإشكالية المتعلقة يوجوب مراعاة خصوصية المجتمع الأردني، وهو الأمر الذي حال دون الوصول للثمرة النهائية من عمل اللجنة، وأدّى إلى ضياع الفرصة وإفساد مضمونها وأهميتها، وتسبب في مطارح عدة إلى تعميق الفجوة بين المواطنين والحكومة، وزيادة رصيدها من الفشل أمام الرأي العام الأردني.
لذلك فإن اختيار الأشخاص المؤهلين بالخبرات والمهارات للإشراف على أعمال هذه اللجنة، أو غيرها، هو العامل الأهم لتحقيق ما يرجو الأردنيون منها. من الضروري أيضاً في هذا الموضوع أن يُفسح المجال للحوار المفتوح مع المواطنين وفيما بينهم، عبر المنصات الإلكترونية والمواقع الإعلامية والمؤتمرات العامة، لإبداء آرائهم وملاحظاتهم حول الرغبة في التغيير وآلياته واتجاهاته، وتشجيع المختصين منهم على تقديم أي دراسات وأوراق عمل حول جميع الموضوعات المطروحة للتطوير، الأمر الذي سيزيد من اهتمام كافة فئات الشعب بعمل هذه اللجان، وشعورهم بالشراكة الحقيقية مع دولتهم، وبأنهم ليسوا أقل كفاءة ودراية بالشأن العام من الفرق الحكومية.
ومن المسلم به أنّ بناء الثقة يستلزم عمل الطرفين، ويقع على عاتق المواطنين الابتعاد قدر الإمكان عن الانتماءات الضيقة والتخفيف من طغيان القبيلة والعصبية، والفصل بين العادات والتقاليد وبين روح القانون الذي يجب أن تناط به حوكمة مؤسسات الدولة وإدارتها، مع أهمية الحفاظ على المبادئ والقيم الراسخة التي يتحلى بها شعب الأردن، والمستمدة من جوهر الدين وتعاليمه، الإسلامية والمسيحية، ومن الأخلاق الإنسانية بالعموم.
كما يشكلّ التنمر على القطاعات الحكومية- والذي ينتشر بشكل لافت اليوم- ضغطاً على مؤسسات الدولة ويؤدي إلى تعطيل عملها ويجعلها في كثير من الحالات، عاجزة عن حلّ المشكلات الملقاة على عاتقها، وبالتالي فقدان هيبتها.
فرغم التقصير وضعف الأداء في عمل بعض مؤسسات الدولة، فإن مواجهة كل ما تقدمه الحكومة من أفكار وخطط جديدة بالرفض والتشكيك هو تعطيل متعمدّ في أحيان كثيرة، تقوم به بعض الشخصيات والأحزاب السياسية في الشارع الأردني، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين الذي ينحاز مباشرة إلى معارضة كل ما تنوي الحكومة اتخاذه من خطوات وقرارات. ولذلك نؤكد على أن منح الثقة للحكومة ودعمها هو أمر ضروري ولا بد منه، حتى لو وقعت بعض الأخطاء خلال عملها، فمن لا يعمل لا يخطئ، ولا يكون قادراً أيضاً على ابتكار الحلول وحل المشكلات.
إن التشكيك المجاني وغير المسؤول لا يخدم الشعب الأردني بأي شكل من الأشكال، ولا يتوافق مع تطلعات ودعوات قيادته، وهذا برأيي ما يحتم ضرورة التصدي الجاد لهذه القضية بالغة الحساسية، وبطريقة لا تهدد مكاسب الديمقراطية، ولا تلغي بأي شكل من الأشكال حرية التعبير عن الرأي. ولا أعتقد أن الهجوم على الدولة ومؤسساتها والتشكيك الدائم بعملها، يقدم حلاًّ للمشكلات، بل إن الحل الأمثل لها يقوم على حوار وطني عقلاني، وبمشاركة جادة من كل الأطراف، بحيث تبقى الدولة مرجعية ضامنة للجميع، دون أن تفقد هيبتها وفعالية دورها، وعلينا في هذا الصدد أن نأخذ العبرة من التجارب التي مرت بها دول مجاورة قادها الفساد والانغلاق وغياب الحوار إلى حافة الانهيار.
وأمام جميع ما تطرحه الرسالة من رؤىً وتطلعاتٍ وأهداف، يبقى السؤال الأهم المتعلق بتحويلها إلى استراتيجيات وسياسات تضمن سلامة التنفيذ وشفافية الرقابة والمساءلة، وفي هذا الإطار كان الملك قد وجّه الديوان الملكيّ الهاشمي للبدء بتنظيم ورشة عمل وطنية، تجمع ممثلين من أصحاب الخبرة والتخصص في القطاعات الاقتصادية، وبالتعاون مع الحكومة، لوضع رؤية شاملة وخارطة طريق مُحكمة للسنوات المقبلة؛ وهذا ما يستدعي التأكيد ثانية على أهمية تعيين أصحاب الكفاءة والاختصاص، بعيدًا عن المحسوبيات التي كرست مجموعة من الأسماء التي يعرفها المجتمع الأردني ولم يعد يثق بها، وذلك بعدما أخذت فرصتها ولم تقدم شيئًا للوطن.
ورغم ما تضمنته الرسائل التي وجهها الملك سابقاً، والتي حملت دعوات جادة إلى تغيير آليات العمل من أجل الحصول على نتائج حقيقية، تبقى المشكلة الحقيقية في التنفيذ مرتبطة بغياب القوى والشخصيات القادرة على تنظيم هذه الدعوات ووضع خارطةٍ واضحة المعالم لها، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي، ولذلك لا تزال مخرجات اللجنة الملكيّة لتحديث المنظومة السياسية تُقارع بنودها في مجلس النواب، في حين يغيب أي برنامج اقتصادي فاعل للحكومة عن عناوين الصحف والأخبار، فلا مسار ولا هدف واضح له. أمام هذه التحديات كلها، حملت الرسالة الأخيرة توجهاً مليكاً نحو المتابعة والإشراف المباشر، مما يعني وضع أخطاء بعض المسؤولين، أو فسادهم، أمام المساءلة الشعبية والرسمية.
ولتحقيق الاستجابة المثلى أمام هذا التوجه الملكي نحو المتابعة والإشراف، سيكون من المهم جداً أن تعمل الحكومة بشكل عاجل، وبالشراكة من الهيئات والمؤسسات التشريعية والقضائية والمدنية، على تطوير وتجديد آليات الحوار الوطني الشفاف، والتزام الجميع بها تحت سقف القانون، خاصة بعدما أصبح هذا الحوار جزءاً أصيلاً من العملية التفاعلية الهادفة لتطوير العمل المؤسسي في الدولة. كما ينبغي التشديد على ضرورة أن يتزامن تفعيله مع تحديث التوجيهات والقرارات والأدوات الضامنة لتحقيق فصل واضح بين النقد الموضوعي وجهود حوامله الرسمية والاجتماعية، وبين الانتقاد الهدام والمعطل لوظيفة الدولة وأدوارها على كافة المستويات.
ويرافق كل ما سبق، التأكيد على أهمية العمل من أجل إعادة هيكلة المؤسسات السيادية في الدولة، ورفدها بالخبرات الوطنية المميزة، وضخ دماء جديدة فيها، وتعزيز دورها في مكافحة الفساد، وبخاصة مؤسسة القضاء والبنك المركزي، ومؤسسات وهيئات الرقابة العامة في شتى القطاعات.
وكوسيلة لتفعيل دور المواطن الأردني، ركزت الرسالة الملكيّة على أهمية استعادة صدارة الأردن في التعليم، وإعادة النظر في منظومته بمختلف الأقسام، وعدم الاكتفاء بتطويرها فقط، بل ينبغي الاتجاه نحو ابتكار نظام تعليميّ جديد ومختلف كليّا، وهذا ما يمكن اعتباره اللبنة الأولى لبناء المستقبل الآمن والمستقرّ الذي ينشده الأردنيون وعلى رأسهم جلالة الملك، خاصة وأن جودة التعليم اليوم قد أصبحت في العالم كله المفتاح الرئيس لتطور الدول وتقدم المجتمعات ورفاهها، والمعيار الثابت الذي يقاس عليه نموها وازدهارها، بل يمكن القول إن الدول والمجتمعات الحديثة باتت تنظر للتنافس العلمي والتربوي باعتباره المضمار الأهم في ضمان المستقبل، ويتجاوز في ذلك التنافس السياسي أو العسكري أو الاقتصادي، فالعلم هو الشرط الأساس الذي يقوم عليه الإنجاز في هذه المجالات، وغيرها أيضاً.
ينبغي إذن أن تحتل كل هذه المهام، وغيرها مما لا يتسع المقام هنا لذكرها، قائمة الأولويات الحكومية والوطنية، خاصة وأن الرسالة الملكيّة قد نقلت في هذا العام حديث الشارع والناس، وتضمنت نقداً بنّاءً لمسيرة الحكومات السابقة والحالية، وتوجيها واضحاً بما ينبغي أن تركز عليه الحكومات القادمة. كما شدّدت الرسالة على مطالبة الجميع بتحملّ مسؤولياتهم وإنجاز مهماتهم على أتم وجه، والابتعاد عن التذرع بأن جهات خارجية تستهدف الأردن على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي الحجة التي يسوقها بعض المسؤولين كلما وُضعوا في موضع المساءلة عن تقصيرهم، خاصة وأن وجود مثل تلك المؤامرات يجب أن يكون دافعاً للعمل الجاد والدؤوب لقطع الطريق على من يريد استغلال واستثمار الأخطاء ونقاط الضعف، واستثمارها للتأثير في عقول المواطنين من باب تقصير مسؤوليهم، بغية تشويه صورة الأردن داخلياً وخارجياً.
وفي الحقيقة لم تخلُ الرسالة من خيبة أمل سببتها السياسات القاصرة المتكررة للقائمين على بعض مؤسسات الدولة، الأمر الذي تطلب تدخلاً مباشراً من الملك لتعديل مسارها وتصحيح أخطائها. ويشير تكرار هذا الحال إلى أن كتب التكليف السامي التي تُوَجه للحكومات لا تُفهم، في معظم الأحيان، بشكل عميق وإدراك شامل من قبل المكلفين بها، ورغم الوضوح المنهجي والعملي الذي تتضمنه كتب التكليف هذه، فيبدو أنها لا تنال القراءة المعمقة والدقيقة لدى بعض المسؤولين.
وفي الحقيقة “نحن لا نملك رفاهية الوقت”، وتعبرّ الرسالة الملكيّة عن ذلك أوضح تعبير، وحين يدعو الملك إلى “ترجمة رؤيتنا للمستقبل الذي نريد”، ينبغي أخذ هذه الدعوة كإشارة مباشرة للبدء في استخلاص العبر والدروس المستفادة من منجزات المئوية، والبناء عليها نحو مستقبل ينهض بالأردن ويمكّنه من أن يشغل مكانته العربية والإقليمية والدولية، ليستطيع استثمار ما يتميز به من مؤهلات وقدرات تمكنه من جسر ما تبقى من الفجوة الحضارية التي ما زالت تفصل بينه وبين الدول المتقدمة في المنطقة.
أخيراً.. أدعو الأردنيين جميعاً، وهم المشهود لهم بحبهم لوطنهم وفخرهم بانتمائهم وصدق ولائهم، أن يضعوا ثقتهم المطلقة بجلالة الملك، وأن يتصدوا لكل ما يبعث على التشكيك وبث الروح السلبية، سواء عبر الإشاعات أو الآراء والأحكام الناقصة وغير المدروسة. وعلى الشباب الأردني وأصحاب الكفاءات تقع المسؤولية الأولى في ذلك، فالأردن محظوظ بشبابه المثقف والواعي والمتحمس لبناء وطنه والمشاركة في تطوره. وكلي أمل أن يُعلن العام 2022 برعاية ملكية عاماً للحوار واستشراف مستقبل الأردن والتخطيط له للمئة عام الثانية من عمر الدولة، وأن يشارك في هذا الحوار كل الأردنيين دون استثناء، وأن تفتح له المؤتمرات والندوات وورشات العمل في جميع المدارس والجامعات ودور العبادة. وأن تتشكل لهذا الحوار لجنة ملكية خاصة تعنى بدراسة جميع مخرجات هذا الحوار، ومناقشتها وعرضها للرأي العام. كما أتمنى ما يتمناه أغلب الشعب الأردني أن يكون سمو ولي العهد على رأس هذه اللجنة، إذ أعتقد أن ذلك سيضمن لها المصداقية والحرفية، فقد أثبت ولي العهد نجاحاً غير مسبوق في المهمات التي أُسندت إليه، ومنها مثلاً عندما تسلّم الإشراف على برنامج اللقاح ضد كورونا، فارتفع عدد متلقي الجرعات من حوالي 70 مواطناً في اليوم الواحد إلى 5000 مواطن تقريباً، وقد تضافر في إنجاح مهمته هذه عاملان لا يخفيان على أحد: المهارات القيادية والإدارية التي يتمتع بها ولي العهد، وحب الشعب الأردني له واتفاقهم حول شخصه. وأعتقد أن إسناد رئاسة اللجنة الملكية له سيزيد من فرص نجاح مخرجاتها وسيسهم في تحقيق التغيير الشامل والمنشود الذي لا خيار لنا غيره، ويحقق الطموح الذي تحدث عنه الملك، لتتحقق رؤيته في أن يكون الأردن في مصاف الدولة المتقدمة.
كل عام والأردن والملك وشعبه