“حسن اسميك”
تنتشر حول العالم اليوم أكثر من خمسة آلاف مدينة، على اختلاف مساحتها وموقعها الجغرافي، وحتى على اختلاف جذورها الضاربة في عمق التاريخ. بيد أن قلّة قليلة من تلك المدن بقيت على قيد الحياة، وتمكنت- دون تكلّف – من أن تكون محطّ أنظار عبر الزمن، إذ بات اسمها يختصر بلداً كاملاً بكل ما فيه، ودليلاً دامغاً يشير إليه، ومن أهم الأمثلة على ذلك قولنا: (باريس) للدلالة على فرنسا، و(قرطبة) للإشارة إلى الفترة الأندلسية، أما لفظ (بغداد)، فلا يزال تعبيراً كلياً عن العراق بكافة تفاصيله وجزئياته.
عرفت بغداد بتفاصيلها جميعاً.. الصغيرة والكبيرة، عرفت أحياءها وشوارعها وعادات أهلها وطقوسهم اليومية، يوم خالطتهم وشاركتهم العيش ومناسباته وأحواله، إذ لم أرض أن أكتفي من مكوثي في بغداد بالدراسة الجامعية والتخرج من الجامعة المستنصرية فحسب، بل أردت أيضاً أن أتعلم وأتخرج في كل ما يمكن أن أتعرف عليه وأختبره في هذه المدينة العظيمة. تمتاز بغداد بموقعها الجغرافي المهم والمُطلّ على نهر دجلة، الأمر الذي أدّى إلى بثّ الروح فيها لتكون أرضاً خصبة للحياة بصنوفها كافة. ولِمَ لا! فما لَمَسَ الماء أرضاً، ولا جاور النهر شعباً، إلا وكانت الحضارة ثالثهما، لتصبح واقعاً ملموساً يتوّج بها هذا المكان، تلك هي الحقيقة الراسخة التي لا مناص منها في كل حديث يطرق أبواب المدن الخالدة.
وإذا فرغنا من الجغرافيا وتبعاتها، فكيف للتاريخ أن يفرغ من بصمة الأمجاد البغدادية التي تملّكت صفحاته! منذ التدوين المسماري الأول المنقوش على صخورها، مروراً باليوم الذي باتت فيه “بغداد” عاصمةً، ليس للعراق فقط، بل للدنيا من حولها حين كانت مركز الخلافة الإسلامية، ليس سياسياً فحسب، بل ثقافياً وفكرياً أيضاً، ولعل مكتبة “بيت الحكمة” خير شاهد على المستوى الفكري والثقافي الذي وصلت إليه بغداد آنذاك، وبخاصة مع تطوّر الترجمة التي لعبت دوراً كبيراً في نشر أهم المعارف والعلوم الإنسانية، ما جعلها مقصداً عالمياً ومنبراً حضارياً لكافة المتعطشين للعلوم والثقافة، وكأن الله حرّم على “بغداد” عاقبة العطش أيٍ كان، فمرةً يرويها نهر دجلة، وأُخرى يرويها نهر المعرفة.
لقد مارَسَ الزمن أفعاله القاسية التي تعاقبت على جسد العراق، ورغم ذلك، حاولت “بغداد”، بخطوات مرتبكة، الحفاظ على مذهبها الثقافي. ولرصد الحركة الثقافية الدائرة رحاها في مطلع القرن الماضي، لا يمكننا الأخذ بالتطورات العلمية الحاصلة في الجامعات والمدارس فحسب، بل لا بدّ لنا من اقتفاء أثرها في الحياة اليومية، وبمعنى أدق، في الشوارع وبين العامة، وذلك لاستنباط المؤشرات والدلالات على حيوية المجتمعات الثقافية القادرة على إحياء الأفكار وتغذيتها بشكل مستمر. ولعلّ أهم الإنجازات في البيئة الشعبية كان ظهور بعض المقاهي ذات الطابع الفكري في أزقّة “بغداد” وشوارعها، أسوةً بالعواصم العربية والعالمية. حيث تعدّت كونها مكاناً لقضاء الوقت وتبادل الأحاديث، لتصل إلى حدّ ممارستها كإحدى آليات التثقيف والتنوير، فصارت – تلك المقاهي – الفضاء الرحب الذي يجمع النخبة المثقفة والشرائح المتعلمة، يتبادلون في ما بينهم أحاديث الثقافة والأدب والسياسة والفلسفة.
وقد ذاع صيت تلك المقاهي في أغلب المدن العربية، وحتى العالمية، بفضل ما يدور فيها من نقاشات وسجالات شعرية ومعارضات لحكوماتها السابقة. وقد شكّل تحول المقاهي العراقية في شارعي الرشيد والمتنبي بخاصة، إلى منتديات ثقافية، عامل جذبٍ لأهم الأدباء والكتّاب والمسرحيين والرسّامين والسياسيين من أنحاء البلاد كافة، أمثال بدر شاكر السياب، محمد مهدي الجواهري، مظفر النواب، كمال الجبوري، البياتي، جواد سليم، وغيرهم من روّاد الفكر والأدب والإبداع والرأي.
ولازالت العديد من تلك المقاهي البغدادية حيّة في الذاكرة الجمعية للشعب العراقي، كـمقهى حسن عجمي، الشابندر، البلدية، البرازيلية، رضا علوان، وغيرها من المقاهي التي نضجت فيها أجمل التجارب الشعرية، واجتمعت حول طاولاتها الخشبية الجماعات التشكيلية الأولى، وضمّت فوق رفوفها معرضاً واسعاً من الكتب المهمّة، واحتدمت داخلها أهم الجدالات الثقافية والفكرية، في محاولة لوضع بعض الأساسيات للتأثير على الحالة الاجتماعية والسياسية على حدّ سواء. والجدير بالذكر حول هذه التجربة في تلك الفترة، تواجد العنصر النسوي في هذه الأماكن، كالكاتبة “نازك الملائكة”، ما أشعل أولى شرارات الحرية والانفتاح الحقيقي في المجتمع العراقي، لبناء الشخصية الملائمة للحداثة، لا كنصٍ فقط، بل كبيئة فاعلة في الحياة.
وعلى وقع أقداح الشاي ورائحة القهوة الفواحة، كان الشاعر “محمد مهدي الجواهري” يلقي قصائده الوطنية في مقهى “حسن عجمي”، مثيراً حماس الشعب العراقي ضد الإجراءات البريطانية التعسفية. كما سجّل مقهى البلدية صدور ديوان الشاعر بدر شاكر السياب بعنوان “أزهار ذابلة” في وقت ارتياده المعتاد لهذا المقهى. ويذكر التاريخ العراقي أن مقهى “رضا علوان” كان من أهم المنتديات الثقافية التي عرض فيها أغلب المثقفين نشاطاتهم الإبداعية، إضافةً إلى تحوّل مقهى البرازيلية إلى مدرسة مهمة تُعلّم الأدباء والشعراء الكثير من العلوم والمعارف عن طريق الحوارات التي تبنّتها النخبة. وعليه، شكّلت المقاهي مكاناً اجتماعياً حميمياً، يحوّل النظريات المحكية إلى أفكار واقعية، ضمن السياق الجمعي لعلاقات الأفراد المتأثرة والمؤثرة في ما بينها.
لاحقاً، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، تراجعت الحركة الثقافية بشكل ملحوظ، بعد أن باتت تلك المنابر المنتشرة شوكةً تنخز خاصرة الدولة وسياستها، إذ لا يعكر صفو بال المستبدين شيء أكثر من قصيدة ناقدة، أو فكرة ثورية تجمع أحلام المتطلعين للمستقبل الجديد تحت راية واحدة. ولذلك أغلقت الحكومة بعضاً من تلك المقاهي، وقامت بحملة اعتقالات واسعة شملت معظم مريديها، وذلك لطمس كافة المعالم الأدبية الفاعلة. فعادت المقاهي إلى سابق عهدها، مكاناً يصدّر ثقافة اللهو واللامبالاة للشريحة الشبابية بعيداً عن هموم الحياة اليومية.
في الحقيقة، قامت بعض نخب المجتمع العراقي ببعض المحاولات الخجولة لإعادة إحياء الأمجاد القديمة للمقهى البغدادي، وفي سبيل ذلك، تحوّلت بعض مناطق بغداد إلى مراكز سياسية وثقافية لاستقطاب المهتمين والمشتغلين بكل ما هو جديد ومعرفي، كمقهى “الكرادة”، وتم افتتاح بعض المكتبات الصغيرة التي تؤمّن قراءة وبيع الكتب بأسعار رمزية. بيد أن الإهمال كان من نصيب أغلب المقاهي التراثية التي اقتصرت وظيفتها على استقطاب السيّاح والجيل الجديد من الشباب، بفضل ديكوراتها التقليدية، والصور الفوتوغرافية القديمة التي تروي عبرها قصة حياة مختلفة كانت متواجدة في هذا المكان يوماً ما، وبخاصة بعد الثورة الحاصلة في وسائل الإعلام والإنترنت، فما عاد للمقاهي أيّ دور يُذكر في المشهد الثقافي والاجتماعي.
إذن، تعكس المقاهي الشعبية صورةً حقيقية نقلت الواقع الذي عاشته الشعوب العربية ضمن ظروف تلك الحقبة، أما ما يحدث اليوم في المقاهي الثقافية في مدينة “بغداد” فلا يتّفق مع الصورة القيّمة للحركة الثقافية العراقية عبر تاريخها الطويل. لذا، لا بدّ من نفض الغبار عن المعنى العميق لفكرة (القهوة/ أو المقهى) ثقافياً ومجتمعياً، حتى تشكل عامل جذب للحركة الثقافية، وحتى “يتبغدد” المثقفون والمفكرون بوساطة تجديد المنابر التي تعبّر عن الشخصية العراقية في الوقت الحالي.