“حوسبة” الإنسان… عن التعليم في الدول العربية

“حوسبة” الإنسان… عن التعليم في الدول العربية

حسن اسميك

وسط أكوام المشاكل والهموم والقضايا الملحّة التي نعيشها كدول ومجتمعات عربية، لا يمكن لأحد أن يُنكر أو يتجاهل حقيقة أن التعليم هو الجذر الخفي الأعمق الذي تنشأ منه معظم تلك الأزمات. قد يأتي إلينا أحدهم محملاً بإحصائيات وأرقام تظهر حجم الإنفاق الحكومي العربي على بناء المدارس وطباعة الكتب وغيرها، محاولاً أن يرفع المسؤولية عن الحكومات، ويبرز ما تبذله من قدرات لحلّ مشاكل التربية والتعليم في بلدانها. كل هذه الأرقام غير كافية، فعدد الطلبة والخريجين وحتى الدرجات المرتفعة ليست دليلاً على جودة التعليم، بل هي أمور تدل على العكس أحياناً، ربما على أنَّ الطالب يحصل على كمٍّ من الأفكار والمعلومات، دون التنبه إلى فائدتها وملاءمتها من عدمه، فنحن نلقنه الأفكار ولا نعلمه التفكير، وكأننا نعطي الطالب السمكة ولا نعلمه كيف يصطاد، وهنا بيت القصيد.


تتباين الدول العربية في مستويات التعليم، بمرحلتيه المدرسية والجامعية، لكن معظمها لا يزال يعاني تخلفاً في النظم التعليمية، يترافق مع نسب أمية مرتفعة. ولهذا التخلف والتدني عناصر وأسباب، بعضها مباشر يظهر واضحاً في حال المدارس والمدرسين العرب، وبعضها غير مباشرٍ يرتبط بفلسفة تعليم العلوم في بلادنا، إذ تعتمد المناهج على التلقين، وضخ كميات كبيرة من المعلومات، دون إيلاء الفهم والاستيعاب أو إكساب الطالب منهجاً للتفكير والتحليل أي اهتمام.

ويؤدي الأسلوب المتبع في الامتحانات أو طريقة قياس مستوى الطالب دوراً يزيد الطين بلة، إذ يجعل هدف المتعلم منصباً على تحصيل أكبر عدد ممكن من الدرجات للوصول إلى مقاعد الجامعة، أو التباهي والظهور الاجتماعي! أما تحقيق هذا “الإنجاز” فيتم عبر حفظ ما ورد في كتابه المدرسي واسترجاعه بشكل آني وآلي على ورقة الامتحان. أما بعد التخرج ومواجهة الواقع العملي نجده صفر اليدين، وقد يحتاج سنوات من التدريب بعدد تلك التي قضاها على مقاعد الدراسة، وربما أكثر.


حتى عندما فكرت بعض السلطات التعليمية في دول عربية بتطوير المناهج وتحديثها، اعتمدت ما أود تسميته مجازاً “حوسبة الإنسان” أو “رقمنة الإنسان” انطلاقاً من أن الحواسيب (ذات الذاكرة العالية) هي معيار الذكاء، وعليه حاولت صنع “الإنسان النموذجي” على غرار تلك الآلات، عن طريق حشو ذاكرة تخزينه (عقله) بكمٍّ لا منتهٍ من المعلومات، متجاهلة أنه وحتى في الحواسيب الذكية، يعدّ “المعالج” لا “القرص الصلب” أهم الأجزاء، فالطريقة التي سوف يتعامل بها مع مجموعة الأوامر التي أدخلت في نظامه هي ما يهمنا وهي ما يصنع الفرق، علماً أن كماً غير مدروس من تلك الأوامر قد يسبب خللاً في كامل الجهاز ويعطله عن العمل.


لا سبيل هنا إلى تفادي مقارنة واقعنا التعليمي مع نظيره في الدول المتقدمة، حيث تدرس مادة الرياضيات أو الفيزياء مثلاً عبر التطبيقات العملية في المقام الأول ليكتسب الطالب مهارة استخدامها في حياته، أما مناهجنا العربية فتقدمها بشكلها النظري البحت ليتحول الطالب إلى ما يشبه الآلة الحاسبة أو البرنامج الهندسي مسبق التصميم؛ ولا يختلف الأمر في التاريخ والجغرافيا حيث يعني التفوق فيهما أن تصبح محرك بحث (كـ”غوغل” مثلاً) يستحضر المعلومات ويستعرضها كما هي في أحسن الأحوال، فليس مهماً في التاريخ أي تحليل أو نقد أو ربط بين وقائعه وأحداثه وآلية صيروريته، وليس مهماً في الجغرافيا أية مقاربة بشرية أو طبيعية أو بيئية بين الأرض والظواهر التي فوقها. وفي تعليم اللغة التي توليها الدول المتقدمة أعظم اهتمام كونها حامل الثقافة والعلوم والحضارة، فنجد قصوراً في إيصال روح اللغة العربية، وهي من أصعب اللغات وأجملها، ما يجعل الطالب حافظاً للقواعد غير قادر على تفريغها نصاً على ورقة، أو خطاباً على لسانه، وكثيراً ما نلحظ خلطاً غير مقبول بين اللغة الفصحى والعامية في مقالات وأبحاث تم تدقيقها ونشرها، وبالطريقة نفسها قد تتجنب مناهج عربية كثيرة شرح البنية الفيزيولوجية والبيولوجية للإنسان – بدوافع وذرائع مختلفة – فيما تصدع رؤوس الطلبة، ولسنوات طويلة من التعليم، بحياة الأسماك والطيور والنباتات التي لن يروها في حياتهم.


أما المواد الاجتماعية فلها حكاية أخرى حيث تخضع بشكل دقيق لتوجيه سياسي من السلطات الحاكمة، فتحول الانتماء للوطن إلى ولاء للسلطة، يردد الطالب شعاراتها وأهدافها فيصير متشبعاً بعقائدها وبوقاً لها. تجدر الإشارة إلى أن مشكلة المناهج العربية تعود بشكل رئيس إلى تحكم السلطة السياسية بالمؤسسة التعليمية والتربوية، ففي حين تكون مهمة السلطات في البلدان المتقدمة وضع إطار أو مبادئ عامة للمناهج التي تدرس، مع تأمين كل ما يلزم لإتمام العملية التعليمية على أكمل وجه، نجد أن هذه السلطات في البلدان النامية تتدخل في أدق المعلومات التي تمرر للطالب، وتحرص كلّ الحرص على وضع تفكيره في صندوق محدد الجوانب، تلزمه على التفكير من داخله، وتُحرم عليه النقد والتساؤل، فتشلّ عقله وتحجمه، وتصنع إنساناً منصاعاً مغترباً عن وطنه مسلوب الإرادة متوجساً أو راغباً في الرحيل بعيداً عن قيودها في أحسن الأحوال.


في روايته الشهيرة 1984، يتحدث الكاتب البريطاني جورج أورويل عن قيام الأنظمة الشمولية بزرع شاشات رصد في كل مكان لإبقاء المواطن تحت سيطرتها في كل لحظة، واصفاً السلطة بأنها: “تمزيق الفكر البشري إلى قطع يجري تجميعها لاحقاً في أشكال جديدة سبق اختيارها”.  ولا يختلف اثنان على أن دولاً عربية عدة ابتليت طوال عقود بأنظمة حرصت على زرع شاشات الرصد تلك في عقول أطفالها من خلال مناهج التعليم، والنتيجة كانت دولاً تعاني من الاستبداد السياسي والمشاكل الاقتصادية المستمرة، إلى جانب التخلف الاجتماعي والإنساني، والحروب التي لا تكاد تنتهي على أرضها.


تتوسط بلداننا العربية اليوم عالمين – إلى الشرق وإلى الغرب – يتنافسان على صنع المستقبل، دون أن يكون لنا يد تذكر في هذه السيرورة، فحتى المقاييس التقليدية لجودة التعليم لا تزال أرقامها متدنية في معظم دولنا، إذ لا يتجاوز الإنفاق على التعليم في الدول العربية 2-4% من الإنفاق العام حسب آخر الإحصائيات، في حين تبلغ نسبة الأمية فيها نحو 29.7% وذلك حسب تقرير صادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو). في الوقت الذي أثارت النتائج التي حققتها دول “النمور الآسيوية” في اختبارات التقييم الدولي للطلبة أو ما يعرف بـ (PIZA) اهتمام حتى الدول الأوروبية التي تتميز بدورها بمناهج تعليمية رائدة عالمياً.


لفتت هذه النتائج المتقدمة – لطلاب بلدان صارت تتمتع بمعدلات نمو عالية – النظر إلى عدة قضايا مرتبطة بعلاقة نوعية التعليم ووسائله مع الأوضاع الاقتصادية والاستقرار السياسي في أي بلد، وخلص باحثون إلى مجموعة أسباب أدت إلى ارتفاع مستويات التعليم في تلك البلدان، منها الثقافة المجتمعية التي تعزز قدرة النجاح لدى الإنسان في أي مجال يحظى باهتمامه، إلى جانب مستوى المدرّسين والاهتمام بتدريبهم الدائم والحرص على تأمين حياة لائقة لهم، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى، و”الدفع الجمعي” الذي يركز على تأهيل الأبنية وتوعية الأهل وتطوير المناهج بشكل دائم.


وحتى أكون منصفاً، تجدر الإشارة أيضاً إلى أن دولاً عربية تمكنت من تحقيق نتائج جيدة في اختباراتٍ وتقييماتٍ مماثلة، تتمتع هذه الدول بمستويات نمو عالية قياساً بشقيقاتها، ما يثبت حتمية الترابط وتبادلية العلاقة بين التعليم والتنمية، فالتقدم والرخاء يحسن مستوى التعليم، مثلما يولد التعليم “الصحيح” نمو اقتصادياً. إن وعي هذا الأمر وإدراكه من قبل السلطات التعليمية في بعض البلدان العربية، يشكل عاملاً مهماً في تحديد ملامح المرحلة المقبلة، خاصة في البلدان التي عانت خلال السنوات الأخيرة من حروب ونزاعات تركت تأثيراتٍ هائلة على قطاع التعليم فيها، كماً ونوعاً، وحرَمت أعداداً كبيرة من الأطفال هذا الحق ولو بالحد الأدنى، ما يهدد حاضر هذه الدول ومستقبلها أيضاً.


وللأسف… فإن كثيراً من الشباب العربي يُظهر تفوقاً دراسياً وعملياً خارج بلدانهم، في أوروبا وأميركا مثلاً، حيث تسمح بيئة التعليم بتفجير القدرات واستثمارها، لأنها مهيأة ومعدة على أساس التعليم الذي يحاكي واقع هذه الدول وحاجتها، ومعه التدريب والتأهيل وتنمية المهارات. على عكس الدول العربية التي يكون سوق عملها في وادٍ ومناهجها التعليمية والتدريبية – إن وجدت – في وادٍ آخر، وهكذا ينهي الطالب تعليمه ليجد نفسه يملك مفتاحاً لدخول معترك الحياة، لكن لا باب يلج منه ليبني مستقبله ومستقبل وطنه، وإن وجد الباب أحياناً فلن يكون المفتاح الذي بين يديه مناسباً لفتحه.


الحقيقة إذن، أن النظام التعليمي العربي يحتاج إلى إعادة نظر شاملة، تبدأ بالمناهج ولا تنتهي عند واضعيها أو طريقة تدريسها، مع التركيز على التدريب العملي المستمر، ليطغى إكساب المهارات على التلقين الذي حول أطفالنا إلى ببغاوات تردد دون أن تفهم خوفاً من العقاب المدرسي والأسري، فتصير العملية التعليمية تكاملاً بين زرع القيم وإيصال المعلومة مع طريقة استخدامها، ولن يتحقق هذا إلا بتعزيز “التفكير النقدي” عند الطالب وفتح المجال أمامه للبحث والنقاش والتساؤل، دون قمعه أو تأطير فكره، فنحن نصنع إنساناً ومواطناً أولاً… ومن ثم وطناً كاملاً، أي الإنسان ثم البنيان.


ومن نافل القول في هذا السياق أن الاهتمام بالمعلمين أنفسهم ضرورة حيوية، فهم عماد هذه العملية وركيزتها. كما يجب ترك مسألة وضع المناهج لأصحاب الاختصاص والمعرفة، ولا يجب نسيان أهمية البناء المدرسي الملائم وتجهيزه بأدوات البحث مهما كلّفت، إذ لا شك أن الانفاق على التعليم استثمار ناجح في الدول دائماً.


أخيراً… يقاس نجاح سياسة ما بنتائجها ومدى تحقيقها أهداف المجتمع، وقبل أن تمتلك نسب كبيرة من خريجي مدارسنا وجامعتنا مهارات أو فكراً إبداعياً يجعلهم قادرين على حل مشاكلهم، فإنهم لن يكونوا قادرين على حل مشكلات مجتمعاتهم، وبالتالي لا يمكن القول حتى الآن بأن لدينا سياسات تعليمية مقبولة. ولن تصبح لدينا هذه السياسات إلا إذا آمنّا وعملنا على أن الاستثمار بالإنسان هو أعظم الاستثمارات، مهما تطورت العلوم والتقانات. هذا ما أثبتته تجارب الشعوب على اختلاف حضاراتها. وفي الحقيقة فإن ما وصل إليه العالم اليوم من تقدم، يبرز أهمية عنصر “النوع” في معادلة بناء الدول، النوع القادر على حل المشاكل وخلق الإمكانيات وتطويرها، بدل الكم الذي يجترّ أنماطاً ثابتة من العمل والإنجاز خالية من المرونة، تضع العصي في عجلات النمو والتنمية، وتُؤخّر مسار التطور… بل وفي كثير من الأحيان توقفه تماماً.

مجلة حكايا
هذه المجلة تُصدر عن قسم الإعلام والوسائط المتعددة في مجلس قلقيلية