نحو إعادة بناء العلاقة بين الإيمان والعلم: من العلم إلى الإيمان.. فاقد الشّيء لا يُعطيه (2/3)

نحو إعادة بناء العلاقة بين الإيمان والعلم: من العلم إلى الإيمان.. فاقد الشّيء لا يُعطيه (2/3)

حسن اسميك

عطفاً على ما سبق حول نقد الخلط بين حقائق العلم المتغيرة والقابلة للتصحيح دائماً، وحقائق الإيمان الثابتة والراسخة في كتاب الله سبحانه، سأوضح منذ البداية أن القرآن الكريم ليس كتاباً علمياً، فهل هذا ينقص من قداسته ونزاهته؟ بل العكس تماماً هو المقصود، إذ إن من نزاهة كلام الله سبحانه وقداسته أن لا يكون قابلاً للانضواء تحت مصطلح العلم. وقبل أن ترى يا عزيزي القارئ في هذا الكلام تجديفاً أو شبهة كفر، دعنا نتفق أولاً على معنى العلم. واخلع عنك قبل ذلك كل أوهام التقديس والتعظيم والثقة المطلقة التي تسبغها على هذه المفردة. فالعلم، بحسب معناه الشائع والأكثر تداولاً اليوم بين أصحابه، ليس سوى صورة من صور نشاط العقل الإنساني، يعكس فيها فهمه للطبيعة من حوله وتنظيمها نظرياً، وذلك لأجل اكتشاف قوانينها ومحاولة التأثير فيها عبر إعادة استخدام هذه القوانين. وإذا لم تختلف معي حول أي كلمة مما سبق، وحري بك أن لا تختلف، فهيّا بنا لنعيد تحليل هذا التعريف الموقت للعلم وننظر في دلالاته.

– لنقف أولاً على أن العلم صنعة إنسانية تقوم على ما يمكن أن يؤثر به الإنسان في نفسه وفي الموجودات والمخلوفات من حوله، فيستطيع أن يكتشف علاقاتها ويخترع منها تراكيب جديدة. ولكنه لا يستطيع أن يأتي بجديد ليس له مثيل من قبل، وهذا جانب بسيط من الجوانب التي يختلف فيها القرآن الكريم عن كل علم أو كتاب. 

– العلم هو صورة من صور نشاط العقل، وللعقل صور أخرى يتعرف فيها إلى الوجود حوله، وليس إلى الطبيعة فقط، منها الإيمان بالله والتفكر والتأمل في خلقه، وفهم ما جاء في كتبه وما بلّغه أنبياؤه. ومنها الفلسفة التي تقوم على النظر العقلي في الوجود بظواهره العميقة التي لا تقبل التجربة من جهة، ولم يتناولها الدين والغيب من جهة أخرى، كالنظر في القيم المجردة والاجتماع البشري ومشكلاته ومعنى الحياة وطبيعة الموجودات. ومنها الآداب والفنون والشعر وغيرها مما يقوم على الحدس الإبداعي بكل أصنافه. وهذا يعني لنا أن العلم لا يعكس كل ما في العقل!

– العلم من جهة ثانية يعكس فهم الإنسان بناءً على قدرته العقلية، وكلامنا هذا يتضمن مبدأ التغير والتطور، إذ لا يختلف اثنان على أنه، كما العقل متطور متغير، فالعلم كذلك متطور ومتغير، أي أنه ينتقل دائماً من الخاطئ إلى الصحيح، ومن الصحيح إلى الأكثر صحة، ومن الجزئي والفردي إلى الصورة الأكثر عموماً، ولكنها لا يمكن أن تصبح صورة كلية مطلقة. ولذلك ذهب العلماء والفلاسفة إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ الأخطاء التي ارتكبها العقل ثم اكتشف لاحقاً أنها ليست علماً وأعاد تصحيحها.

– أما بالنسبة إلى القوانين التي يكتشفها الإنسان عبر العلم، فهي أيضاً تبقى قوانين في حدود قدرة عقله، ومركبة من المفاهيم التي استطاع أن يولدها ضمن هذه الحدود. وهي أيضاً قوانين نسبية ومنقوصة ستبقى تحتمل الخطأ أو القصور حتى لو تأكدنا من نجاحها ضمن ما هو متاح وممكن لنا.

– غاية هذه القوانين هي محاولة السيطرة على الطبيعة والتأثير فيها، وهذا كلام يبدو صحيحاً على صعيد هذه الطبيعة من حولنا، لكن الوثوق بصحته سرعان ما يتزعزع عندما نكتشف في الطبيعة ما لم نكن نعرفه منذ سنة أو عقد أو قرن. وما زلنا حتى الآن لا ندرك إلا الجزء اليسير جداً مقابل الأسرار الكبيرة والغامضة التي لا نعرف عنها شيئاً.

أفبعد كل هذا عزيزي القارئ تعتقد أن العلم بمنتوجاته يمكن أن يكون الضامن للإيمان بالله ومعرفته وصحة الاعتقاد بكتبه ورسله؟! إن العلم، رغم أهميته الكبيرة جداً للإنسان، لا يرقى إلى هذا المرقى العظيم المتعلق بالله وعالم الغيب عنده. والأخطر من ذلك أن اكتشافاً علمياً واحداً قد يقع اليوم أو غداً، أو بعد عام، يمكن أن يغيّر كل تصوراتنا السابقة التي بنيناها على ما بين أيدينا من العلوم، فهل نبني إيماننا بالله على هذه العلوم أيضاً ثم نغيره عندما تتغير هذه العلوم؟

يكفي هنا القول إن حقائق العلم نسبية ومشروطة في الصحة لزمانها ومكانها، ومتغيرة ومتبدلة دائماً لا يثبت بعضها لعقود أو لبضع سنوات، ومنقوصة لم يكتمل منها علم واحد حتى الآن، فكيف لها أن تعطي للإيمان الثبات والرسوخ والاكتمال وهي تفتقر إلى ذلك كله!

دعك من حسن النيات في غير محلها.

تجد بعض المتحمسين لتوطيد هذه العلاقة غير المنطقية بين العلم والإيمان، ممن يسهمون في نشر هذه المواد وتبادلها، يقعون غالباً في فخ الخرافة التي هي ليست من العلم مطلقاً، وحاشا الدين والإيمان أن تكون منهما أيضاً. يوصيك هؤلاء مع كل رسالة أن لا تهملها، ولا تحبسها عندك، بل أرسلها لعشرة أشخاص وسيفتح الله عليك، أهملها فلان التاجر فخسر تجارته، ونشرها فلان المريض فذهب مرضه. هؤلاء وإن كانوا لا يدركون ما وراء الأمر، فإنهم يشاركون في نشر خطاب التخويف هذا والتهديد اللاواعي في المال والصحة والجسد، فيدفعون بالكثير من البسطاء أمثالهم ليكونوا جزءاً من مكنة التضليل وانحراف الفكر وسلامة العقيدة.

البعض الآخر قد يرينا أنه ملتزم العقلانية ورافض للتجهيل، لكنه لا يتورع عن المشاركة في إشاعة هذه الأفكار، متذرعاً بأنها إذا لم تنفع فهي لا تضر، وأنها ربما تكون تذكيراً بالله وجزءاً من العمل الصالح، فلا حرج في نشرها! وهذا والله قول عجيب لمن لا يرى حرجاً وهو يضلل العقول ويصرف الناس عن الرأي السديد والإيمان الحقيقي. ثم أبالجهل نتذكر الله ونذكره؟ وبالخرافة والوهم نتقرب إليه بالعمل الصالح؟ ما لكم كيف تحكمون؟

إن الله حكيم عليم.. هو خالق العلم وخالق المتعلم والمعلوم، ولا يمكن لهذه المخلوقات النسبية والمتبدلة والمتغيرة والفانية أن تكون البرهان الموثوق على وجوده وقدرته سبحانه وهو المطلق الباقي والصمد الذي لا يمسه تبدل ولا تغير. وما زال للحديث بقية..

مجلة حكايا
هذه المجلة تُصدر عن قسم الإعلام والوسائط المتعددة في مجلس قلقيلية