الإسلام والسلام عند ابـــن عربـــي

الإسلام والسلام عند ابـــن عربـــي

العدد رقم: 21

حسن اسميك – ولد ابن عربي في مدينة “مرسية” في الأندلس سنة 1164 م، قبل أن ينتقل إلى إشبيلية حيث درس القرآن والحديث والفقه، وعلى الرغم من أن ولادته كانت في كنف أسرة ثرية مكنته من عيش حياة الترف والصيد، إلا أن علامات الزهد والتصوف بدأت بالظهور عليه بعد زواجه من امرأة صالحة عُرفت بالتقوى والورع، وكان للظروف الاجتماعية والسياسية التي رافقت حياته أثر بالغ في صقل الفكر الصوفي الذي عُرف به؛ فقد كانت الأندلس في زمان “سلطان العارفين” تحت حكم مراكش عاصمة دولة الموحدين، تعيش ذروة الغليان السياسي نتيجة الصراع مع القوى الأوربية القادمة من الشمال والساعية لتبديد الوجود العربي فيها.

زار ابن عربي مدن الأندلس والمغرب وتونس، قبل أن يتوجه شرقاً لأداء فريضة الحج، فأقام في مكة ثلاث سنين عرف خلالها ابنة إمام الحرم المكي وأحبها، وكتب فيها متغزلاً ديوانه “ترجمان الأشواق” ذي المعاني الصوفية الرقيقة، ثم واصل ترحاله عبر مدن المشرق، حيث كان الصليبيون لا يزالون يحتلون أنطاكية وطرابلس زمن الدولة الأيوبية، كما زار العراق ومصر قبل أن يستقر في دمشق حتى وفاته سنة 1240م.
فكر ابن عربي وسلوكه:

لقد كان فكر ابن عربي انعكاساً للعصر الذهبي للحضارة العربية- الإسلامية (من 800 إلى 1300 م)، حيث ازدهرت الفلسفة وتصاعدت الأفكار العقلانية، وارتفع معها شأن الإنسان حتى بات يُعتبر مركز الكون ومحور القيم، فكانت الأندلس ساحة للحركات الفكرية العميقة والتيارات العقلية الجدلية، التي أبرزت عدداً من أعلام الفكر والفلاسفة من أمثال ابن طفيل وابن رشد وابن زهر والرازي والسهروردي والرومي وغيرهم الكثير ممن أثر في فكر ابن عربي وأغناه، فألّف المئات من الكتب والرسائل، أهمها: “عنقاء مغرب”، ثم “التدبيرات الإلهية” الذي وضعه في إصلاح المملكة الإنسانية والمقابلة بين الله والعالم، و”الفتوحات المكية” حيث جمع في هذا الكتاب أشتاتاً من المعارف تمثل الثقافة الإسلامية بأوسع معانيها، وانتهى في دور نضجه العقلي والروحي بتأليف كتاب “فصوص الحكم” الذي يمثل خلاصة مذهبه في التصوف الفلسفي، فأذهل الجميع، وأثار في نفوسهم الحيرة والشك جنباً إلى جنب مع الإعجاب والتقدير! وبالرغم من مؤلفاته الكثيرة، لكنه شغل شطراً غير قليل من حياته فيما يشغل به المتصوفة أنفسهم من ضروب العبادة والمجاهدة والمراقبة والمحاسبة. لقد أحاط نفسه بالتراث العربي- الإسلامي بشكلٍ تام، وحصر جل اهتمامه بنوع خاص من الفلسفة الصوفية بجانبيها النظري والعملي، ووقف كل علمه لخدمته، وضمنه كل المجالات المعرفية المُحبَّبة إلى نفسه. كما امتازت حياته بالهدوء والصفاء والتفرغ المطمئن للتعبُّد والتلقِّي، فكان في جداله رحب الصدر والأفق، لا يرمي أحداً بالكفر أو يصفه بالزندقة والفجور، وكان أقصى ما يُخاطب فيه خصمه أن يقول له: “لقد أخطأ عقلك، ولم يخطئ إيمانك”.

شكل تراث الشيخ موسوعة صوفية قائمة بذاتها؛ تميزت بغزارة المصطلحات الفلسفية وكثرة التلميحات والتمويهات والإشارات والرموز، ربما عن عمدٍ لتجنب مصير شيوخ الصوفية كالحلاج والبسطامي والسهروردي، أو لمسايرة المعتقدات وتلافي تهم الكفر والزندقة، مع ذلك فقد خرق الكثير من التصورات والمعتقدات التقليدية بالتصريح إلى جانب التلميح، وأسس نظريته الفلسفية الصوفية في “وحدة الوجود”، والتي استمد عناصرها من عدة مصادر، كالقرآن والحديث وعلم الكلام والفلسفة المشائية والفلسفة الافلاطونية المحدثة والغنوصية والمسيحية وفلسفة فيلون اليهودي، وانتفع بفلسفة اخوان الصفا ومتصوفة الاسلام المتقدمين عليه، فبنى من هذه المذاهب المختلفة مذهباً فريداً في تفسير أنطولوجيا الوجود، معتبراً العالم المادي بكل ما فيه ظلاً للموجود الحقيقي الوحيد (الحقيقة المطلقة) الذي هو الله، وما العوالم المادية إلا تجليات لهذه الحقيقة. كما ذهب إلى أن الحس أشرف من العقل، كونه يمنحه البراهين لما يريد العلم فيه، وكأننا نرى، كما يقول محمد الخطاب، “مظهراً من مظاهر الفينومينولوجيا الحديثة، التي حاولت صياغة التجربة الإنسانية على أساس علاقة الوعي التي تحكم الحس الإنساني بالعالم، وخاصة عالم الأشياء”.

وعلى أساس نظريته في “وحدة الوجود”، أقام ابن عربي نظريته الخاصة في وحدة الاديان، والتي يبدو أنها مثلت من وجهة نظره الوقاية من خطر التنافر والحروب التي يمكن ان تنشأ من التعارض بين الاديان وتورث الاحقاد والكراهية. فسلك بذلك طريق كبار المتصوفة مثل: ابن الفارض والحلاج وجلال الدين الرومي والفيلسوف الفارابي.

و”الدين” وفقاً لابن عربي هو “الانقياد”، ولأن الانقياد من عمل العبد، فالدين من عمل العبد. أما الذي من عند الله فهو الشرع الذي ينقاد إليه العبد، وبهذا المعنى تستوي الأديان كلها لأنها تشترك في الجوهر، أو “الأنقياد”، لذلك فإن تعدد الأديان والمذاهب هو مجرد تعدد للوسائل التي يتوسلها الإنسان لغاية واحدة هي عبادة إله واحد، فليست الأديان والمذاهب في حقيقة الأمر سوى وسائل يتوسل بها الانسان إلى غاية واحدة، وهي عبادة إله واحد، وهذا ما عبر عنه في كتابه “فصوص الحكم” قائلاً: فما أحد من العالم إلا على الصراط المستقيم، لأنه ( فأينما تولوا فثم وجه الله).
تلك المبادئ قادت تلقائياً إلى القول بوحدة الأديان ووحدة البشر؛ مما أعطى فكره بعداً إنسانياً عميقاً، حتى أصبحت “المحبة” عنده ديانة ومذهباً، حيث يقول:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقــد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُــــورةٍ فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــــــــــانِ
وبيــــتٌ لأوثــانٍ وكـــــعـــبـــــةُ طـائـــــــــفٍ وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قـــــــــــــــــرآن
أديـنُ بدينِ الحــــــــــــبِ أنّى توجّـهـتْ ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَانـــــي

أراد ابن عربي بناء مذهب موسوعي يجمع فيه أصناف العقائد المختلفة، فالإنسان عنده هو خليفة الله والمعبر عن الكمال الإلهي، مما يجعل الله والكمال الإنساني وجهان لحقيقة واحدة، فالإنسان يقود العالم من خلال “وجوده”، فإذا غاب الإنسان غاب العالم كله.
وقد بنى الشيخ الأكبر معتقداته، من منطلق أنه وريث المعرفة المحمدية، فقال صراحة: “إنه لا يكتب عن رويَّة وفكر؛ وإنما عن نَفْثٍ في رُوعه، وأن تصانيفه من خزائن القرآن، وقد أُعطي مفاتيح الفهم فيها والإمداد منها”؛ أي أنه لم يكتب شيئاً من ذاته، وإنما هو ما يشبه الوحي الذي ينزل عليه، فهو ليس بمؤلف أو كاتب بل هو “وارث” يكتب إملاءً إلهياً، وقد ادعى أن كتابه “فصوص الحكم” أُلقي عليه من قبل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
الشيخ الأكبر.. أم الشيخ الأكفر:

كان “الشيخ الأكبر” موضع ترحاب في جميع المدن العربية التي طاف بها
أما على صعيد أفكاره، فقد كان مثاراً للخلافات والجدل، ويعتبر الفقيه اليمني جمال الدين بن الخياط أول من أثار الجدل حول “الفتوحات المكية”، فألَّف رسالة تعرَّض فيها لبعض آرائه، وقد اتُهم ابن الخياط بأنه دس على ابن عربي روايات مكذوبة ليجلب عليه سخط الفقهاء. كما ألَّف برهان الدين البقاعي كتاباً بعنوان: “تنبيه الغبي في كفر ابن عربي”، أما ابن خلدون، فقد أنكر عليه آراءه واصماً إياها بالكفر الصريح كما ورد في المقدمة الشهيرة، أما الإمام الذهبي فقد قال: “إن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر”.
ورغم ذلك فقد تصدى مناصروا ابن عربي للرد على كل المشككين به، فبقي فكره متقداً إلى يومنا هذا عابراً حدود الجغرافيا العربية – الإسلامية نمتح من افكاره حتى الآن.

ابن عربي عابراً للحدود:
ساهم الكتّاب والشعراء الأوائل في نشر مدرسة ابن عربي الفكرية بعد ترجمتهم لأعماله، مما أدى لنشر عقيدة الإبداع الروحي المنفتح للدين مقابل وجهات النظر الضيقة والمتحجِّرة؛ حيث أن التفسيرات المستقاة من كتاباته هي عبارة عن تعليقات روحيّة على القرآن والحديث. من جهة أخرى فإن التأثير التاريخي لابن عربي جاء نتيجة لتهديد الحكم السياسي الإسلامي على يدّ المغول والصليبيين، لكن بعيد وفاة الشيخ الأكبر بوقت قصير، عاد الإسلام لينتشر في آسيا وأفريقيا والبلقان من خلال الطرق الصوفية بشكل خاص، ومن خلال الطقوس المألوفة: كالشعر، والموسيقى، والمهرجانات.
يرى جيمس موريس، أستاذ اللاهوت الإسلامي في جامعة بوسطن، أن وجهة نظر ابن عربي تركزت على الواجبات والمسؤوليات التي يتشاطرها البشر “روحياً وأخلاقياً وفكرياً”، لا على ما يُفرّقهم؛ لذا يمكن اعتباره مصدر الإلهام لتشكيل حضارة عالمية إنسانية بالكامل، فقد ردّ التعاليم الدينية المُنزّلة إلى تجربتنا الروحية الضمنية التي نتشاركها كبشر في كل الأزمنة والمواقف، وشكلت أفكاره دعماً للإبداع والتنوّع الروحي من خلال تركيزها على أبعاد التجربة الروحية الفريدة لكل فرد.

وقد وصل فكر ابن عربي إلى أوربا وانتشر فيها من خلال تأثر الأديب الألماني “غوته” بأدب الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، المتعمق بتعاليم الشيخ الأكبر، مما جعل مسرحياته تستند بعمق على فهم القرآن. ولهذا فإن الاهتمام بدراسة وتدريس أعمال ابن عربي في الجامعات إلى جانب الأوساط الدينية والصوفية، لا يزال موضع اهتمام متزايد، ولا يزال “دفين” دمشق بحسب موريس، “ظاهرة روحية كونية”، ومصدراً أكيداً للإصلاح وإلهام الناس، إلا أن الإصلاح الأعمق بالنسبة له يتمثّل دائماً في إصلاح القلب والنوايا، إذ أننا بهذا الإصلاح نبني عائلاتنا ومجتمعاتنا.

ختاماً، قد يتفق البعض مع فكر ابن عربي أو يختلفون معه، إلا أنه سيبقى رمزاً من رموز الفكر الإنساني العريق والمتجدد، ومفكراً عالمياً تَرفّع عن كل أشكال التعصب للأديان والمذاهب والمعتقدات، ودافع عن تساوي بني الإنسان جميعاً أمام الغاية الإلهية في الخلق (خلافة الله في الأرض). أما مناسبة الكتابة عنه الآن فمرتبطة بكثرة تذكري له واستشهادي مراراً بأقواله وأفكاره خلال الأيام السابقات، ومنذ أن تم الإعلان عن الاتفاق الإبراهيمي، ومتابعتي لمشروع المسار الإبراهيمي الذي يُنادى به عالمياً كمشروع لإحلال السلام من خلال وحدة الأديان، وللمتحف الإبراهيمي الذي سيمثل منارة مهمة من منارات هذا المسار، وما كل ذلك باعتقادي إلا إحياء لفلسفة ابن عربي ومذهبه الإنساني الكلّاني، سواء من حيث وحدة الأديان، أو من حيث وحدة العوالم.
لذلك فليس من المستغرب أن بعض الأصوات الرافضة له لا تزال تنطلق بين الحين والآخر لتكفر رجلاً آمن بالله ورسوله، ودعا إلى دين “المحبة” كرسالة بشرية وإنسانية. ولعل التبرير الوحيد لهذا الاستغراب نجده في مقولة المفكرين:
“قلت لصديقي: لم لا يصيح ديككم؟، فقال: اشتكى منه الجيران لأنه يوقظهم فذبحناه. هنا فهمت أن كل من يوقظ الناس من سُباتهم على مدار التاريخ، هناك من يريد قطع رأسه”.

اقرا في داخل هذا الاصدار من المجلة

لا يوجد مقالات في هذا الاصدار
مجلة حكايا
هذه المجلة تُصدر عن قسم الإعلام والوسائط المتعددة في مجلس قلقيلية